من مشاهدات أم ملهوفة علي أبنائها.. أم تبغي سلامة الوطن وأمنه، ورفعة شأنه، وهو يحتضن أبناءه الوطنيين المخلصين، وقواه الفاعلة، ويخطو بالجميع، وللجميع صوب مستقبل واعد، تصنعه السواعد الماهرة، وتهيئ له العقول النابهة، وتحميه الدروع الواقية في جيشه وشرطته.. والجميع يبنون مجتمعًا حرًا، ديمقراطيًا، طال الشوق إليه.. فبعد أن قالت الجماهير المصرية كلمتها المدوية بنعم للدستور الجديد، مكبرة مبتهجة، مغردة و'مزغردة' صانعة من الاستفتاء في يومي 14، 15 يناير احتفالية مصرية مميزة غطت سماءها، وأرضها.. وصارت عنوانًا للتفاؤل الشعبي، رغم ما يعتري الواقع المصري من بقايا 'إخوانية' ضالة تشبه الخوارج. وهي تلجأ إلي الشغب ومحاولة إرهاب المصريين الآمنين والمتفائلين.. وتخاطب العالم بأنها مازال تعبث بالبلاد والعباد!! لتأتي الأسئلة الضرورية: ما الذي استبان لنا من هذا الاستفتاء؟ ما قراءتنا الدقيقة لأهم ملامحه؟ ما الذي أنبأنا به وكشف الغطاء عنه؟ ما علامات القوة والضعف التي تلامسنا معها؟ خاصة ونحن نقف علي أعتاب استحقاقات مهمة في تنفيذ 'خارطة المستقبل' من انتخابات رئيس جمهورية، وانتخابات برلمانية حتي تستقر البلاد والعباد وتبدأ عملية البناء الجاد. إذا كان الفريق أول عبد الفتاح السيسي قد توجه برسالتين قبل الاستفتاء.. فقد خص الشباب بالرسالة الأولي التي أكد فيها أهمية الشباب وضرورته وأن مصر تعد من المجتمعات الشابة حيث إن نسبة الشباب فيها تصل إلي 60% وهي ميزة كبري علينا أن نتمسك بها ونوظفها جيدًا.. لأن هناك مجتمعات تعاني الشيخوخة وأذكر منها علي سبيل المثال 'اليابان' و'ألمانيا' حيث نسبة كبار السن تفوق نسبة الشباب بكثير، الأمر الذي جعلهم يفتحون بلادهم لاستقبال الطاقة الشابة الوافدة من جميع أنحاء العالم. ليرتقوا هذا الصدع، وَلِيُطَعَّمُوا مجتمعاتهم بطاقة الشباب البناءة والقادرة علي صنع التقدم.. خاصة أنهم موقنون بأن الشباب هم القاطرة بل الرافعة التي بها تتقدم الأمم. أما الرسالة الثانية.. فقد وجهها 'السيسي' إلي المرأة المصرية علي اختلافها.. ومن الفتاة إلي الأم التي خصها بالذكر لأنها المحرك الأساسي والجوهري للأسرة. وقد استجابت المرأة، وبهرت العالم بتواجدها الكثيف، الذي شكلت به الأغلبية التصويتية في الاستفتاء، وبتحمسها وتوهجها الذي ظنه المراقبون دعاية للفريق 'السيسي' وتزكية لكي يصبح رئيسًا للجمهورية.. وهو ظن في محله، لأن خطاب 'السيسي' للمرأة المصرية تميز بالاحترام الجم لها ولمكانتها داخل أسرتها بل داخل المجتمع بل كأنه يعلن انحيازه لها ولدورها الإيجابي ومكانتها المؤثرة.. بعد أن كانت مذلة ومهانة في حكم 'المعزول' محمد مرسي وجماعته.. وفائضة علي الحاجة في حكم 'المخلوع' محمد حسني مبارك.. فما كان منها إلا أن برهنت له وللعالم أنها قادرة علي الفعل الإيجابي.. وهو ما مَيَّزَ مسيرتها منذ ثورة 25 يناير 2011.. واستمر نضالها علي امتداد الثلاث سنوات الماضية.. الأمر الذي يجعلها بعد هذا الخروج لن ترضي 'بالفتات'، ولا أن تكون تكملة عدد مرة أخري!! إن خروجها الكبير.. تعلن به وبقوة إصرارها علي أن تكون قوة فَعَّاَلة في تشكيل خريطة المستقبل لهذا الوطن في ثوبه الجديد. ***** وتظل المفارقة قائمة.. أنه في حين لبت الأم المصرية النداء والدعوة الحارة تراجع الأبناء أو بالأحري 'الشباب'.. ولا أقول إنهم عزفوا عن المشاركة عزوفًا كاملاً.. وإنما تضاءل الحضور، أو جاء علي استحياء.. وقد تعددت الأسباب.. لكن تظل لوعة الأم قائمة، خاصة أن الأم المصرية يتحدد موقفها تجاه أبنائها، وتتحول قوتها وصلابتها إلي ضعف في حالات ثلاث 'الصغير إلي أن يكبر، والمريض إلي أن يشفي، والغائب إلي أن يعود' ومن هنا نعيد طرح السؤال: لماذا غاب الشباب؟! وهو الذي كان وقود ثورة 25 يناير ومحركها الأساسي إذ شَكَّلَ الطليعة الثورية الكبري.. ثم هو من كان وقود 30 يونية والدينامو المحرك لها، وتشهد علي ذلك حركة 'تمرد'.. ومن ضمن المتغيرات التي ألمت بالشباب في الفترة الانتقالية التي تعيشها مصر.. ظهور قانون 'التظاهر' الذي اعترض عليه مجلس حقوق الإنسان المصري قبل رموز من الحركات الثورية الشابة.. وقد قبض علي بعضهم وأخذوا أحكامًا ونحن لا نعترض علي القضاء وإنما نصف ما حدث حتي نخرج بنتائج وهي أسباب غياب الشباب عن المشاركة.. المهم أنه في سرعة خاطفة طبق القانون علي بعض الشباب.. في حين أنه لم يطبق علي جماعة الإخوان! وتبعًا لذلك وبالمفارقة المريرة.. وعلي سبيل المثال نري أن 'أحمد دومة' وهو أحد شباب يناير يقضي عقوبة في السجن تبعا لذاك القانون.. بينما رموز 'المخلوع' تخرج تباعًا بل تشارك في الحياة السياسية وتقول رأيها في الدستور الجديد دون وجل ولا اعتذار عما ارتكبته من مفاسد وجرائم في حق الشعب المصري!! ثم تنطلق من جهاز الإعلام علي تنوعه أو عبر الشاشات، وبالأقلام اتهامات مرعبة دون دليل دامغ لثورة يناير، وتحويلها إلي مؤامرة عالمية!! ثم تقوم بالطعن في الطليعة الثورية الشبابية التي قامت بها، وتضعهم بالجملة في بؤرة الخيانة والعمالة دون سند من قانون يذكر!! ثم يأتون بثالث الأثافي في كون 30 يونية ما هي إلا ثورة علي الثورة.. أي علي 25 يناير!! ولعل شهادة رئيس تحرير جريدة الأخبار 'ياسر رزق' ولكونه كان أساسًا مراسلاً عسكريًا.. يضع الأمور في نصابها ويعيد الحق إلي أصحابه. وهو يؤكد أن ثورة 25 يناير ثورة شعب، والشباب كانوا في طليعتها. وأن الفريق أول 'السيسي' كان جزءًا أصيلاً من ثورة 25 يناير.. لأنه صاحب فكرة تدخل الجيش في الدفاع عن 'ثورة يناير'، والانحياز للشعب وإرادة الناس، وتعطيل مشروع التوريث!! ويؤكد 'ياسر' في هذه الشهادة أن الرئيس المخلوع أجبر علي التنحي من قبل الجيش. ويا ليت الحكومة الحالية الانتقالية أن تدرك هذا الخطر الداهم الذي يحيق بالأمة قبل شبابها.. فترفع هذا الغبن بكل صوره، وأشكاله، وأساليبه الإفعوانية.. خاصة أننا مقبلون علي الاحتفال بمرور 3 سنوات علي ثورة 25 يناير. فما الذي ستفعله الدولة بشباب الثورتين المكملتين لبعضهما البعض؟! لأن يونية ما هي إلا استرداد ل'يناير' من براثن الجماعة. ما الذي ستفعله الدولة أمام الدعوات والمقذوفات النارية التي تطلقها تلك الجماعة الإرهابية من تحويل هذا اليوم إلي يوم رعب ودموي وهي تدعي ملكليتها لثورة يناير.. في حين تتهم يونية بالانقلاب؟! فهل يا تري سيظل هذا القصف الإعلامي الذي يكيل الاتهامات جزافًا للشباب الذي نُحِّيَ، وناضل، فما كان منه إلا أن لاقي جزاء 'سنمار'؟! وانزوي بعض منه بعيدًا عن الساحة ليصح تشبيههم 'مجاريح الثورة' كما أطلقها ذات الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس.. إن شهداءنا خير دليل علي أن شباب مصر الأحرار.. هم من تقدموا الصفوف، وصنعوا شرارة الثورة والتغيير فلا أقل من إعادة الاعتبار لهم.. حتي يعودوا لينخرطوا في الساحة فاعلين ومتفاعلين. ***** أما الملمح الثالث في هذا الاستفتاء فهو متعلق بفصيل بعينه من تيار الإسلام السياسي، وهو حزب 'النور' السلفي الذي تراوحت مواقفه وتأرجحت دومًا بين الإقبال والإدبار.. وكأنه يلعب علي حبال سيرك هي من صنع خياله متصورًا أنه الأذكي، والأكثر فطنة وذكاء.. وهو في حقيقة الأمر يلعب لعبة مرذولة ولا أقول مفضوحة.. وقد حق عليه وصف جاء بالقرآن الكريم 'الشعراء يتبعهم الغاوون يقولون ما لا يفعلون' فرغم كونهم حرصوا أكثر من مرة علي أنهم سيشاركون بإيجابية في الاستفتاء علي الدستور إلا أن دوائرهم، ومناطق تواجدهم خلت من الرجال والنساء علي حد سواء، خاصة أن اللحي تتقدم رجالهم، والعباءة السوداء تخيم علي نسائهم. فهم مميزون من حيث الشكل ولا تُخْطِئُهم العين.. وأغلب الظن أنهم مارسوا لعبتهم التقليدية وهي أسلوب 'التقية' حيث أظهروا عكس ما يبطنون. ولعل هذا الاستفتاء، ومن خلال نتائجه التي ستعلن بعد كتابة هذا المقال وسنكتشف منها وبها الكثير والكثير.. ولكن الأم الملهوفة ستظل في لوعة إلي أن يعود الشباب الثوري إلي واجهة المشهد العام.. لأنه وقود الثورتين ورافعة المجتمع وإن كره المغرضون.