على خلفية تراكم تاريخي هائل للدور المصري في القرن الإفريقي، وارتهانا بتوفر إرادة سياسية للقاهرة تتجاوز متلازمة الخيارات التكتيكية أو ردود الفعل، إلى استشراف رؤى أشمل للمصالح المتبادلة مع دول القرن الإفريقى، فإن السبل تبقى مفتوحة أمام عودة هذا الدور بقوة، وفى ظل التهديدات المتلاحقة - إقليميا وخارجيا - التى تقود لتحجيم أية مساعٍ مصرية فى هذا المجال، ومن هنا يأتى دور مصر الإيجابى فى التعاون مع دول منطقة القرن الإفريقى، فى إطار مبدأ «أياد قوية ممدودة بالسلام والتعاون فى مواجهة كل التحديات!». وتعتبر منطقة القرن الإفريقى واحدة من أهم المناطق الاستراتيجية فى العالم، وتلعب مصر دورا محوريا فى دعم الأمن والسلم والاستقرار، وتقديم المساعدة للدول المجاورة من خلال التعاون والتنسيق فى القضايا الثنائية والإقليمية عبر دور مصرى تاريخي ومستقبلي هام مؤثر جدا فى دعم الأمن والسلم فى منطقة القرن الإفريقى وحماية أمن البحر الأحمر، علمًا بأن مصر كانت ومازالت تشكل مركزاً إقليمياً يؤثر فى مجريات الأحداث فى شمال وشرق إفريقيا عبر العصور، وحافظت على علاقات قوية مع دول القرن الإفريقى، مثل إريتريا والصومال وچيبوتى، فى ظل علاقات يغلب عليها التوجه نحو التعاون والسلام، حتى فى أوقات الأزمات، ولا توجد دولة واحدة فى منطقة القرن الإفريقى بتعريفه المحدود أو بتعريفه الشامل والأوسع لم تمتد إليها أيادى التعاون والسلام المصرية الآن وسابقا، ولا يمكن لأى من هذه الدول أن تتجاوز أو تتجاهل الدور المصري البناء فى تاريخها سواء القديم أو المعاصر، بداية من دعم مصرى قوى لهذه الدول فى مواجهة تحدياتها الداخلية والخارجية، ووصولا إلى أعلى مستويات التعاون والشراكات الإستراتيچية. ◄ التحديات الأمنية حاليًا، تعانى دول القرن الإفريقى من مجموعة من التحديات الأمنية، منها النزاعات الداخلية، والتطرف، والقرصنة والجريمة والجريمة المنظمة والعابرة للدول وأعمال الاتجار بالبشر، حيث تصاعدت حدة هذه القضايا فى السنوات الأخيرة، مما يظهر الحاجة الملحة لدور فعال من مصر فى تعميق التعاون الإقليمى والدولى، وتواجد مصرى ميدانى فى شكل عتاد ومعدات وأفراد وخبرات بشرية وإمكانات ومعلومات أمنية تساهم كثيرا فى استقرار الأمور ووقف أى تهديدات أيا كان نوعها أو توصيفها ضد دول هذه المنطقة، والتى لايمكن أبدا فصل أمنها عن الأمن القومى المصرى، ولايمكن فصل الأمن القومى المصرى عن الأمن القومى العربى والإفريقى. وبالتبعية فإن أمن هذه المنطقة جزء مؤثر وهام جدا من أمن واستقرار العالم. اللواء محمد إبراهيم الدويري، نائب المدير العام للمركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية، يقول إن التحركات المصرية فى القارة الإفريقية ليست ثانوية، ولكنها أساسية ومهمة نظرا لتأثيرها المباشر على الأمن المصري، ومنطقة «القرن الإفريقى» هى دائرة أمن قومى مصرى أساسية ومباشرة، ورغم انشغال مصر بالكثير من التوترات الإقليمية التى تتسم بتفاعلات كبيرة وعنيفة، إلا أن التحركات المصرية المرتبطة بالقرن الإفريقى مهمة للغاية وذات أولوية، مشيرًا إلى أن أهمية إقليم القرن الإفريقى تنبع من موقعه الرابط بين القارات الثلاث؛ إفريقيا وآسيا وأوروبا، وإطلالته على أهم ممرات الملاحة الدولية، ممّا يجعله ممرًا حيويًا للتجارة الدولية، ونقطة التقاء للعديد من مصالح القوى الإقليمية والدولية، وهذه المنطقة تقع فى بؤرة اهتمام القوى الكبرى، نظرا لأهميتها وإستراتيجية الموانئ والمناطق اللوجيستية فيها. ◄ اقرأ أيضًا | فارس: هناك إرادة مصرية سعودية لمواجهة تحديات الأمن القومي العربي ◄ صراعات الإقليم وقال إن الصراعات التى يواجهها إقليم القرن الإفريقى تتعدد ما بين صراعات ذات طبيعة إثنية، وصراعات حدودية، وصراعات على الموارد، هذا بالإضافة إلى تنامى ظاهرة الأقاليم الانفصالية، وبلغ الاضطراب فى القرن الإفريقى ذروته بشكل غير مسبوق، منذ نوفمبر 2023 وحتى الآن، جراء ما أفرزته الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة من تبعات متمثلة فى هجمات الحوثيين على السفن التجارية المرتبطة بإسرائيل والدول الغربية الداعمة لها، ونتج عن هذا الاضطراب تداعيات سلبية على إمدادات التجارة الدولية ومسارات سلاسل الإمداد، وارتفاع أسعار الشحن والتفريغ، الأمر الذى ألقى بظلاله أيضًا على أهم الممرات الملاحية الدولية لا سيما قناة السويس. واستطرد، أن معالجة صراعات وأزمات القرن الإفريقى لا تقع على عاتق دولة واحدة، بل هى مسئولية جماعية مشتركة يتحملها المجتمع الدولى بأكمله عبر دعم الجهود الدبلوماسية المبذولة لتسوية الصراعات الراهنة فى الإقليم، وتبنى نهج قائم على الحوار والوساطة، ومعالجة الأسباب الجذرية لهذه الصراعات، وهذا هو نهج السياسة المصرية الخارجية بشكل عام وتجاه «إقليم القرن الإفريقى» بشكل خاص وفى إطار أن مستقبل القرن الإفريقى يعتمد على قدرتنا على التعاون معًا لمعالجة هذه الصراعات والأزمات المركبة، وأنه يجب أن نعمل معا لبناء مستقبل أفضل لشعوب القرن الإفريقى. ◄ الرسالة المهمة الدكتور السيد فليفل، عميد معهد الدراسات الإفريقية الأسبق، يقول إن الوجود المصرى فى المنطقة هو استدعاء للتوازن فى القوى، مع توغل إثيوبى بتلك المنطقة خصوصا مع تدخلها فى شئون الصومال، وإن الدول تحاول أن تواجه تهديدات المنطقة وتحافظ على مصالحها فى وجه سياسات توسعية لدول مثل إثيوبيا، وأن «القمة الثلاثية» التى عقدت فى «أسمرة» حملت رسالة مهمة جدا، وهى أن مصر تعزز الأمن فى القرن الإفريقى مع تعاونها مع دولتين بتلك المنطقة يعد إستراتيجية لتعزيز التعاون فى كل المجالات، وممارسة حقها الإقليمى فى زيادة التعاون، بخلاف دعاوى إثيوبيا، يضاف إلى ذلك ما تتمتع به مصر من فاعلية قصوى فى التأثير الإيجابى على الأوضاع الأمنية فى منطقة القرن الإفريقى، التى تعد البوابة الرئيسية التى تمر من خلالها الملاحة البحرية والتجارة الدولية عن طريق باب المندب وصولا لقناة السويس الرابط الاقتصادى الحيوى بين أوروبا وإفريقيا وآسيا. وقال إن مصر تدرك جيدا أهمية التعاون وتبادل المعلومات مع إريتريا تحديدا، التى تحتاج إليها مصر لتعزيز قدراتها فى حماية مسار حركة الملاحة والتجارة الدولية من قناة السويس وعبر البحر الأحمر، كما أن إريتريا تجد نفسها فى حاجة ملحة للاستناد على ظل الدولة المصرية صاحبة التأثير فى جميع الدول المشاطئة للبحر الأحمر، فضلا عن أهمية الدور الذى تلعبه مصر فى كل القضايا المتصلة بالشرق الأوسط، وتداعيات تلك القضايا على أمن البحر الأحمر عمومًا، وبالطبع تحركت مصر نحو الصومال، من واقع إلمامها باتجاهات السياسة الدولية التى ترفض الاعتراف بأرض الصومال كدولة مستقلة، وبالتالى أوجدت مصر لاتفاقها مع الصومال أرضية قانونية صلبة لا تضعها فى مواجهة مع الدول الكبرى بأى حال من الأحوال، وقال إن لمصر هواجس أمنية مشروعة مرتبطة بإصرار إثيوبيا على تشغيل «سد النهضة» دون الاكتراث بمدى التأثيرات السالبة على الأمن القومى المصرى، وارتباطه الوجودى بحصة مصر من مياه نهر النيل، وإن مصر امتلكت «شفرة الدخول» إلى تعديل موازين القوى فى منطقة القرن الإفريقى، ولصالح حماية مصالحها الحيوية الخاصة، وحماية الصومال وإريتريا من أى مهددات أمنية تعصف بمصالحهما واستقرارهما مستقبلا. ◄ مصر لا تكايد أحدا الحضور اللافت والقوى لمصر على المشهد الإفريقى يعد أمرا إيجابيا للغاية ويضيف بعدًا هامًا للتعاون الإفريقى من منظور الأمن القومى المصرى ويعيد بعض القوى الإقليمية التى تمددت خلال غيابها لوضعهم الحقيقى، وما يتم الآن هو تأكيد على الموقف المصرى من أن الأمن القومى المصرى يبدأ من الصومال وإريتريا، كما أن ما تقوم به مصر ليس فيه مكايدة لأحد، كما يحاول البعض أن يزعم أن نية مصر هى تهديد ومحاصرة إثيوبيا فى ظل تأزم الأوضاع بين القاهرة وأديس أبابا بسبب عدم التوصل لاتفاق حول سد النهضة الإثيوبى الذى تنفذه إثيوبيا، هذا ما يؤكد عليه اللواء دكتور سمير فرج، المفكر الاستراتيجى والخبير العسكرى، حيث يوضح أن التحركات المصرية مع الدول الإفريقية الثلاث ليس لها أى علاقة بإثيوبيا، وإنما تسعى إلى تعزيز أمنها القومي، وتأمين مدخل قناة السويس فى ظل التعاون التاريخى مع إريتريا والصومال، وفى ظل ما تموج به المنطقة من صراعات، تعمل مصر على حماية أمنها القومى على جميع محاورها الاستراتيجية، والتى تواجه تهديدات غير مسبوقة،والتحركات المكثفة فى منطقة القرن الإفريقى، والتى كان آخرها القمة الثلاثية بين قادة مصر وإريتريا والصومال، ساهمت فى إحداث حالة من التوازن الاستراتيجى لمجابهة كل الاحتمالات، فضلا عن تعزيز التواجد المصرى فى إفريقيا بعد غياب عقود. فيما يلفت الدكتور محمد عاشور مهدى، أستاذ العلوم السياسية والقانون الدولى بكلية الدراسات الإفريقية العليا بجامعة القاهرة، إلى أن التكامل الإقليمى بين الدول يسهم فى تحقيق الاستفادة المشتركة بين الدول، والتنمية فى منطقة إقليم القرن الإفريقى لن تتحقق إلا عبر التعاون المشترك والدعم الخارجى عبر بلورة خطاب من منطلق مسئولية والتزام ومصلحة مشتركة وليس إحسانا استنادا الى المعاهدات الدولية وهو ما سينعكس إيجابا على إفريقيا وأوروبا.