ارتبطت أشهر الصيف وقيظه اللاهب في مخيلة الأجيال القديمة من المصريين بالثورة وإمكانية حدوثها خاصة بعد قيام ثورة 23 يوليو عام 52. تأكد هذا الربط الشرطي واستوثق حد أنهم كانوا يطلقون علي شهر يوليو شهر الثورات نتيجة لتأجيج المشاعر وفوران العواطف. لكن علي ما يبدو أن الأمر اختلف كثيرًا مع الأجيال الجديدةالشابة ومع ثورة 25 يناير 2011. فقد جاءت في عز الشتاء كما يقول المصريون وهي مشحونة بزاد وفير من المشاعر والتضحيات يفوق الوصف. ومن قبلها وفي الشهر نفسه 17، 18 يناير تفجرت انتفاضة شعبية عارمة عام 1977 امتدت من الإسكندرية حتي أسوان، لكن نظام السادات الاستبدادي والقمعي سرعان ما قام بتطويقها وكتم أنفاسها وفي محاولة لتشويهها بالكامل أطلق عليها السادات 'انتفاضتة حرامية'!!. لا أحد يستطيع أن يجد صلة مباشرة وقاطعة بين المناخ أو الطبيعة الجغرافية وبين أسباب قيام الثورات واندلاعها أو استمرارها وعدمه.. لكن يستطيع أن يجد صلة مباشرة بين الأوضاع السياسية المتردية والضاغطة والمناخ الاقتصادي والاجتماعي العام الفاسد وبين قيام الثورات. ولعل أوضاع الاستبداد والفساد والذل والقهر والهوان الذي عم البلاد والعباد هو ما يوحد بين 23 يوليو و25 يناير والذي من أجله قامت تلك الثورتان كي تزيحا هذا الركام عن كاهل الشعب المصري الذي يستحق حياة أفضل بكثير مما عاشها قبل عام 52 ومما كابدها في 30 عاماً من حكم المخلوع. ورغم رؤية كثير من المحللين السياسيين في بداية الثورة عام 2011 وقراءتهم الإيجابية لشعار 'الجيش والشعب إيد واحدة' الذي هتفت به الملايين كي يرحل المخلوع وزمرته فإن معظم هؤلاء المحللين كانوا يرون بوضوح الفروق الجوهرية والنوعية بين 23 يوليو و25 يناير وكأنهم يعلنون علي الملأ الفرق بين الاثنتين وبين المكونين فثورة يوليو بالنسبة لهم ما هي إلا انقلاب عسكري قام به مجموعة من الضباط الأحرار ثم تبعهم الشعب بينما 25 يناير ثورة شعبية كاملة الأوصاف قام بها طليعة من شباب مصر المسلح بتقنيات العلم الحديث وتكنولوجيا الاتصالات ثم انضم إليهم ما يقرب من 20 مليون مواطن فأضحت ثورة شعبية سلمية ملهمة وهي تبغي بناء دولة القانون والمواطنة الحرة، دولة ديمقراطية ومدينة حديثة. مع بلوغ الثورة عامها الأول في هذه الأيام بلغ الشقاق منتهاه بين المجلس العسكري والثوار بعد أن جرت محاولات عديدة لا لتشويههم وتصفيتهم فحسب بل لوأد الثورة ذاتها.. ومن هذه الفجوة راهن الكثير علي بث الرعب في نفوس المصريين وتحول يوم ميلاد الثورة إلي يوم رعب وكابوس مقيم ولكن خاب ظنهم، فقد نزلت الملايين بعقولها قبل حناجرها وهي تؤكد القسم علي استمرار الثورة والتمسك بمبادئها التي لم تتحقق حتي الآن.. لقد أعاد 'التحرير' إنتاج الثورة من جديد وهو يؤكد رحيل المجلس العسكري والقصاص لأرواح الشهداء.. ناهيك عن العدالة وانتخاب رئيس وكتابة دستور. إن الحادثة البسيطة التي حدثت لامرأة حامل في قلب الميدان تلخص إرادة الأمة المصرية التي تولد من جديد.. إن هذه المرأة تمنت أن يأتي مولودها الجديد في قلب الميدان فإذا بالمخاض يأتيها وتنقل إلي المستشفي الميداني لتأتي بثائر جديد.. كم أنت عظيمة أيتها الثورة المصرية الشعبية البهية وأنت تأخذين من طائر العنقاء إرادته وعزيمته. قد يتمني المتآمرون وسارقو الأحلام ولصوص الليل قتلك أو فناءك لكنك تولدين من رمادك مثل العنقاء تماماً وبإرادة شعبك الحر الأبي.. فليمتنع السماسرة والمقامرون والمقاولون لأنهم لن يجنوا سوي الرماد في العيون وسيبقي الوطن في القلوب!!