اليوم عندما أنظر إلى الإقليم من حولنا، أتساءل: ماذا لو لم نكن نجحنا فى تحرير أرضنا وفرض إرادتنا؟ فأستشعر امتنانًا عميقًا لكل مَن ساهموا فى صناعة ذلك النصر، الذى لا يزال صالحًا لأن يلهمنا العبر والدروس، ويجعلنا جميعًا مدينين لحرب أكتوبر1973، سواء من حظى بشرف المشاركة فيها، أو مَن فاز بحظ العيش مرفوع الهامة على مدى نصف قرن فى ظل انتصاراتها. أتأمل ما يجرى من حولنا، وأحمد الله أن فى مصر جيشًا لا يبتغى غير وجه الله والوطن، يدفع رجاله حياتهم برضا وقناعة، كى تحيا مصر أبية بهية، آمنة مطمئنة. انتصارات أكتوبر ليست مجرد حدث تاريخى نحتفى به يومًا أو أسبوعًا كل عام ثم يتوارى فى أركان الذاكرة، إنها حدث حى -ويجب أن يبقى كذلك- فى عقل ووجدان كل مصرى، فمعركة العبور بيان عملى على قدرة المصريين على مواجهة تحدياتهم مهما بلغت صعوباتها، وبرهان ساطع على تمسكهم بالنور مهما تكاثفت الظلمات من حولهم. أكتوبر 1973 درس عظيم يجب أن يستعيده كل مصرى وعربى ليل نهار، خصوصًا عندما تحاصره الأخبار حول همجية العدو واستقوائه بحلفائه وغروره بقوته وتصيبه بحالة من الوهن والإحباط. ينبغى تذكر أننا عشنا تلك المحنة لمدة 2311 يومًا وبضع ساعات، وهى الفترة من 5 يونيو 1967 وحتى 6 أكتوبر 1973، حتى انطلق بركان الغضب، لتسترد الأمة كرامتها وتحرر أرضها وتدحر عدوها وترغم أنفه فى رمال سيناء، التى كانت وستبقى ساحة تثبت فيها الوطنية المصرية رسوخها وقدرتها حربًا وسلمًا وتنمية. ■■■ اليوم علينا أن نعيد قراءة صفحة أكتوبر المضيئة فى مجلدات تاريخنا العريق، لنعرف أن المستحيل ليس مصريًا، وأن محاولات نشر الإحباط وبث اليأس وروح الاستسلام، وتثبيط العزيمة ليست سوى أدوات للعدو، سحقتها أقدام أبطال العبور وهم يطأون ببياداتهم الخشنة أقوى الموانع العسكرية فى التاريخ، ويدهسون أسطورة الجيش الذى لا يُقهر، ويسطّرون نصرًا لا يزال قابلًا للتكرار إذا ما استدعت الضرورة. من حقنا اليوم أن نزهو ونفخر بجيشنا المصرى أحد أعرق جيوش العالم، إن لم يكن أعرقها على الإطلاق، الذى استطاع على مدى آلاف السنين أن يصوغ لنفسه مكانة راقية فى وجدان أبناء شعبه، ومهابة فى نفوس كل مَن تسول له نفسه المساس بمصر. هذه المكانة الكبيرة لم تأت بين عشية وضحاها، ولا عبر السير فى طرق ممهدة مفروشة بالورود، بل جاءت عبر تاريخ ملىء بتضحيات الرجال، ودماء الشهداء، والسير فوق أشواك التآمر الدولى، والإصرار الذى لا يلين على امتلاك القدرة التى تجعل من المؤسسة العسكرية المصرية نصيرًا قويًا للحق والسلام. من واجبنا جميعًا اليوم أن نتذكر بكل إجلال ذلك الشعب الصامد الصابر المتماسك، الذى حمى ظهر جيشه عندما تعرض للغدر، وتحمل الصعب كى يعود جنود الشعب إلى الضفة الشرقية لقناة السويس كطوفان هادر. ضحى الشعب وحمى جبهته الداخلية ليتفرغ الجيش لمعركته الأهم ويحقق انتصاره الأكبر ويحرر أرضنا المقدسة. ■■■ وبينما نحتفل بالذكرى 51 لانتصارات أكتوبر المجيدة، فإن المشهد الإقليمى المضطرب ينبغى أن يدفع الجميع -فى مصر وخارجها- إلى إعادة قراءة جديدة وأكثر تعمقًا لتلك الحرب، ليس بوصفها حدثًا تاريخيًا، بل باعتبارها نموذجًا عمليًا على إرادة التغيير والقدرة على إدارة التخطيط والتنفيذ. يجب اليوم أن نستعيد روح أكتوبر 1973 ونحن نخوض معركتنا داخليًا من أجل إعادة بناء وطننا على أسس الجمهورية الجديدة «العلم والعمل»، وهما ما ارتكزت عليه روح أكتوبر كى نعبر من الهزيمة إلى النصر، وأن نستلهم روح أكتوبر عندما تجرد الجميع من مصالحه الخاصة لتتغلب المصلحة العامة. علينا كذلك كشعوب ودول عربية أن نستلهم روح أكتوبر، التى أعادت بناء الإرادة العربية والتضامن من أجل التصدى لغطرسة العدو وعدوانه، وأن نواجه بتلك الروح القوية جرائم نفس العدو وهو يمعن فى سفك دماء أهلنا فى فلسطين ولبنان، ويواصل تهديده لأمن واستقرار دول المنطقة، ويفتح قوسًا لا يريده أن يُغلق يكتب فيه بالدم والنار أسماء الآلاف من ضحاياه فى جنبات المنطقة، ولن يغلقه إلا إذا أجبر فهو لا يعرف سوى لغة القوة ولا يحترم غير الأقوياء، والدرس الذى تلقاه قبل 51 عامًا لا يزال مؤلمًا، ومشاهد أسراه العائدين منكسى الرءوس لا يزال جرحًا غائرًا فى جبين غطرستهم. ■■■ اليوم ونحن نحتفل بذكرى النصر لا أملك سوى الانحناء إجلالًا وإكبارًا لرجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، منهم مَن قضى نحبه فى ميادين البطولة والفداء، فلقى ربه شهيدًا مقاتلًا، ومنهم مَن أمهله القدر ليواصل خدمة وطنه فى ميادين العمل مجتهدًا مكافحًا، وجميعهم ما بدلوا تبديلًا. اليوم نشد على أيدى أبناء وأحفاد أبطال العبور المرابطين على الحدود وفى الداخل، تبيت أعينهم تحرس فى سبيل الله وحماية الوطن، يواجهون المخاطر بقلوب مؤمنة وعزيمة صادقة، فصيحات «الله أكبر» لا تزال تنتقل من جيل إلى جيل، مدوية من فوق حصون «خط بارليف» ليتردد صداها فى كل أرجاء الوطن، ترنيمًا يبعث على الثقة والإطمئنان فى قلوب المخلصين المحبين، وهديرًا مزلزلًا يقذف بالرعب فى صدور الطامعين والمتآمرين والمتغطرسين والمتجبرين، وما أكثرهم فى زماننا. حفظ الله وطننا شعبًا وقيادة وجيشًا.. ودام نصر مصر.