نبهني صديق الرحلة إلي أننا اقتربنا من محطة الوصول.. قال والسعادة تملأ عينيه: حمداً لله علي السلامة.. الله يسلمك.. هذه هي الأرض التي اشتقت إليها.. التي ستجد فيها راحتك وكبرياءك.. وستتصالح فيها مع نفسك بعد رحلة عصيبة مضطربة.. هنا ستكسر قيدك وتنال حريتك. كانت العرب تقول حين تفرح بالعودة إلي المكان المحبب: "العود.. أحمد".. فهم يحمدون الله علي كل حال.. لكنهم أكثر حمداً حين العودة إلي مكانهم الأثير. وحديثاًً يحلو للكتاب أن يقتبسوا شطراً من قصيدة لشاعرهم الأشهر نزار قباني يقول "ما أحلي الرجوع إليه" ثم يجعلوه عنواناً لكل مكان أو إنسان ترتاح حين الرجوع إليه. كان السفر شاقاً والزاد قليل والعقبة كؤود.. كان أصعب من الرحلة الغامضة التي تخوف منها "هاملت" وهو يطرح سؤاله التارخي "نكون أو لا نكون".. وقد تصور الأمير الشاب أنه بالموت سيعاني -لا محالة- بحراً من الأهوال والاضطرابات. وقد عانينا أحياء بحوراً من الأهوال والاضطرابات أكثر بكثير مما تصوره هاملت.. حقيقة لا خيالاً.. ويعلم الله وحده أننا تحملنا في سفرنا ما لا يتحمله بشر حتي بلغنا لحظتنا هذه.. واقتربنا من محطة الوصول. وإذا كان أجدادنا قد أخبرونا بأن في السفر سبع فوائد فإن الرحلة علي مشقتها وقسوتها.. بل وبشاعتها أحياناً.. لم تخل من دروس وعبر.. قابلت فيها وجوهاً كثيرة.. وجوهاً صادقة وأخري مزيفة.. ووجوهاً مغطاة بأقنعة حمراء وصفراء وسوداء.. وصافحت أيدينا أيادي طاهرة وأخري ملوثة مسمومة. تلك أيام قاسية صعبة.. حديثها كالسكين الذي يمزق القلوب.. ربما يأتي وقت أكتب لك عن تجربتي فيها باستفاضة حينما تهدأ روحي وتستقر.. لكن دعني الآن استمتع بالنظر إلي محطة الوصول من بعيد.. أستمتع بالأمل في غد أفضل. يقول صديقي: تغيرت البلاد ومن عليها.. وما تنتظر العودة إليه لن يكون أفضل من رحلتنا الصعبة.. وربما لا نهنأ كثيراً في محطة الوصول فنحمل أمتعتنا ثانية ونرحل إلي حيث لا نعلم.. كأنما كتب علينا العناء في الحل والترحال. لكن نفسي تحدثني ببيت من رباعيات الخيام: "واغنم من الحاضر لذاته.. فليس في طبع الليالي الأمان". ولذة الحاضر متعة ذهنية مع رائعة د. جمال حمدان "شخصية مصر" وتحفة جاسون براونلي "تعطيل الديمقراطية.. مخططات التحالف الأمريكي المصري".. وقد أمضيت مع الرجلين أوقاتاً جميلة خففت عني وعثاء السفر. أما الأول فهو أحد أعلام الجغرافيا في مصر والعالم العربي خلال القرن العشرين.. ولد في قرية "ناي" بمحافظة القليوبية في عام 1928 وتوفي عام 1993 ويعد بحق واحداً من أئمة الفكر الاستراتيجي الموسوعي في الحركة الثقافية العربية المعاصرة. وقد وضع سفره الخالد "شخصية مصر" في أربعة مجلدات مبهرة لا أعرف كيف يكون المثقف مثقفاً دون أن يقرأها. وأما الآخر فهو أستاذ بجامعة تكساس في ولاية أوستن الأمريكية.. وقد قام بالعديد من الزيارات لمصر حيث أجري العديد من الأبحاث علي مدار 17 عاماً.. وتنشر أبحاثه وكتاباته في العديد من الدوريات العلمية المرموقة.. كما عمل أيضاً باحثاً زائرا بمركز وودرو ويلسون الدولي للباحثين.. ويقع كتابه "تعطيل الديقراطية" في 279 صفحة من القطع المتوسط ويتناول من خلاله العلاقات المصرية الأمريكية منذ منتصف السبعينيات حتي الآن.. وتأثير هذه العلاقات علي أوضاع الديمقراطية في مصر ومدي تدخل أهداف السياسة الخارجية الأمريكية في عملية صنع القرار المصري علي المستويين المحلي والعالمي. بالتأكيد ستكون هناك فرصة طيبة لأعرض عليك بعضاً مما علق بذهني من اللقاءات المتكررة مع الرجلين.. حتي تتأكد من ان سفري الصعب لم يكن هباء منثوراً.. ولم يخل من فائدة. يقولون: لا يعرف الشوق إلا من يكابده. وقد كابدت الشوق كثيراً في سفري حتي عرفته.. قهرني وقهرته.. قهرني بالعجلة.. وقهرته بالصبر وقوة الاحتمال.. وعلي الرغم من انها تجربة مثيرة وفريدة إلا أنها تظل في النهاية تجربتي.. ولا أطن انها مفيدة لأحد غيري. والآن.. اسمح لي أن استمتع بنظرة من بعيد علي محطة الوصول.. وأعلل النفس بالحلم الذي طال انتظاره حتي نلتقي. إشارات: * دعائي في السحر.. في أعماق أعماق العتمة: اللهم احقن دماء المصريين. من يشاركني الدعاء؟! * يقول الفيلسوف: "اتبعني ودع الموتي يدفنون موتاهم". يا حضرة الفيلسوف.. لم يعد هناك أحد قادر علي أن يتبعك.. كل الموتي مشغولون بمراسم الدفن. * البيض يبكون علي موتاهم.. والسود يبكون علي موتاهم.. وأنا أبكي علي الجميع. * تقول آخر حكمة تلقيتها من الدكتور نجيب ليوس: "إذا انتهت علاقتك مع شخص.. اجمع كافة أسراره وخبئها في مكان ما وانسي المكان.. فالنهايات أخلاق".