جامعة قناة السويس تنظم ندوة حول الحفاظ على البيئة من منظور إسلامي لطلاب المدارس    أسعار الذهب اليوم السبت 26-10-2024 في مصر.. «عيار 21 بكام؟»    تراجع أسعار الأسماك اليوم السبت 26-10-2024 في مصر.. البلطي بكم؟    استقرار سعر الدولار اليوم السبت 26 أكتوبر 2024 في مصر    عمرو أديب يعلق على مراجعة اتفاق مصر مع صندوق النقد الدولي    استئناف الرحلات الجوية في إيران بعد الهجوم الإسرائيلي    وكالة تسنيم الإيرانية: الأنباء عن مشاركة 100 طائرة إسرائيلية في الهجوم كاذبة تماما    تشكيل برشلونة المتوقع ضد ريال مدريد في الدوري الإسباني    تشكيل ريال مدريد المتوقع ضد برشلونة في الدوري الإسباني    اليوم.. اجتماع الجمعية العمومية للنادي المصري    اليوم.. نظر أولى جلسات محاكمة سائق دهس 7 لاعبين فى الشيخ زايد    النائب العام يلتقي سكرتير الدولة للعدل الإسباني لبحث التعاون القضائي الدولي    اليوم.. محاكمة 35 شخصا في قضية شبكة تمويل الإرهاب الإعلامي الكبرى    اليوم.. محاكمة سيدة وعشيقها بتهمة إنهاء حياة زوجها وتقطيعه ببدر    بحضور أحفاده وإبنته.. تكريم موسيقار الأجيال في ليلة محمد عبدالوهاب ب السعودية    بإدارة يسرا.. اليوم ندوة الفنانة إسعاد يونس بمهرجان الجونة السينمائي    توجيهات رئاسية لتوطين صناعة الأدوية عالية التقنية في مصر    حالة الطقس في المحافظات اليوم.. أجواء غائمة ونشاط للرياح    حالة الطرق اليوم، اعرف حركة السيارات بشوارع ومحاور القاهرة والجيزة    ياريت تجيب بلستر.. إبراهيم سعيد يوجه رسالة لمحمود كهربا بعد أزمته الأخيرة    شاهد| صور شقق المبادرة الرئاسية لتطوير عواصم المحافظات    ضبط لص يسرق توك توك لمدرس بسوهاج    علاج منزلي .. ضع البصل تحت الإبط وشاهد ماذا يحدث لجسمك ؟    وزير التموين يشهد افتتاح مشروع سوق اليوم الواحد للمزارعين بالإسكندرية    ترامب يعرب عن دعمه حرب نتنياهو في غزة ولبنان    اخبار التوك شو| الصحفيين تتضامن مع مصور القاهرة الإخبارية المصاب ب لبنان..يمن الحماقى: الدولار سينخفض أمام الجنيه في هذه الحالة    عاجل.. قرار كاف مع خماسي الأهلي والزمالك وفيفا يعتمد إنجاز حسام حسن    جامعة الأزهر: خروج طالبات الأقصر من المستشفى وتحقيق لكشف الملابسات    خبير يكشف عن أخر تفاصيل سد النهضة.. توقف جميع التوربينات    نهاية مأساوية لفنانتين من مصر| «دميانة» و«هيباتيا».. الإبداع في مواجهة التعصب    أول ظهور ل أحمد سعد بعد إجراء عملية جراحية في الفك (صورة)    48 هجوما.. "حزب الله" ينفذ أكبر موجة هجمات ضد إسرائيل منذ بدء الحرب    غلق القيد الصيفي للدوري الممتاز للموسم الجديد 2024 - 2025    اليوم.. الصحة تطلق 8 قوافل طبية بالمحافظات    إنجي المقدم.. أناقة جريئة بالتوب المكشوف الأسود في مهرجان الجونة    عالم شائعات.. ياسمين الخطيب وهدير عبد الرازق وأسرار أزمة الفيديو المسرب    بعد هدم مقابر الإمام الشافعي|تحرك برلماني عاجل.. ماذا يحدث؟    إصابة 6 جنود إسرائيليين جراء سقوط صاروخ في منطقة شومرا بالجليل الغربي    تعليق ناري من نجم الأهلي بشأن احتفاله أمام الزمالك في السوبر الأفريقي    اللواء هشام الحلبي: حرب أكتوبر تجسيد للاحتراف العسكري وأسقطت نظريات دفاعية عالمية    «أسوشيتد برس»: الضربات الإسرائيلية على إيران ستؤدي إلى ارتفاع مستوى التصعيد العسكري بالمنطقة    رغم ارتفاع نسبة الحضور ل80% رسميًا.. عودة ظاهرة «التزويغ» من المدارس    موعد بدء التوقيت الشتوي 2024 في مصر.. اضبط ساعتك وتعرف على مواقيت الصلاة الجديدة    أقراص تحديد النسل للرجال!.. إنجاز علمي تحقق عام 1963 وشاركت جامعة القاهرة في الأبحاث    «البوتكس».. يخلصك من «تجاعيد الموبايل»    التقديم اليوم رسميًا.. شروط ومكان وظائف شركة مياه القاهرة 2024 (رابط مباشر)    «زي النهارده».. وقوع حادث المنشية 26 أكتوبر 1954    ملف يلا كورة.. حظر إعلامي في الأهلي.. موعد مباراتي مصر.. ومفاوضات ليفربول مع مرموش    10 شركات سمسرة تستحوذ على 73.8% من تعاملات البورصة خلال الأسبوع الماضى    حظك اليوم برج الحوت السبت 26 أكتوبر.. اغتنم الفرص    المخرج عمرو سلامة يختار الفائزين في برنامج «كاستنج»    واعظ بالأزهر: الإخلاص أمر مهم ذو تأثير كبير على الإنسان والمجتمع    مجموعة السبع تعلن الاتفاق على قرض ب 50 مليار دولار لأوكرانيا مدعوم بفوائد الأصول الروسية    ضبط سلاح ناري وهيروين مع 3 متهمين في كفر الشيخ    وزير الأوقاف والمفتي ومحافظ السويس يشهدون احتفال المحافظة بالعيد القومي    خطيب الجامع الأزهر: خيرية الأمة ليست شعارا بل نتيجة لامتلاكها مقدمات النجاح    مواقيت الصلاة .. اعرف موعد صلاة الجمعة والصلوات الخمس في جميع المحافظات    خطيب المسجد الحرام: شعائر الدين كلها موصوفة بالاعتدال والوسطية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شعراً.. ونثراً مختارات من أنسي
تداعيات فنية
نشر في أخبار الأدب يوم 08 - 02 - 2014

أتيح لي أن أحضر سهرة خَتَمها فريد الأطرش بالعزف علي عوده. ويومٌ جلس فيه وليد عقل إلي البيانو مع بولونيز شوبان. وليلة في الأرز سمعتُ خلالها محمد عبد الوهاب يصلّي همساً خلف الجمهور من أجل نجاح لحن «سَكَن الليل» الذي خصّ به فيروز افتتاحاً للمهرجان. وسمعته مرّة ثانية خلف جمهور مسرح معرض دمشق يتمتم تعاويذه كأيّ موسيقار ناشئ من أجل أن يلاقي لحن «مُرَّ بي» الذي خصّ به فيروز ذلك العام، النجاح المرجو. وأتيح لي أن أشهد فيروز تجرّب أداء إحدي أغانيها في منزل انطلياس القديم بينما عاصي يعزف تارةً علي البُزُق وطوراً علي الأرمونيوم (أو البيانو، لا أذكر). وشهدت شارل مالك في بيته بالرابية وقد جمعتنا خلوة أقنعتُه خلالها بنشر مقدمته الفلسفيّة شهدته، بعد جدال متوتّر، يقتنع وينقلب من أقصي موقف سياسي إلي أقصاه مكرّراً البرهان، وبتواضعٍ شديد، علي انفتاحه الفكري ومرونة عقله (بدأت حياتي الأدبيّة بالتهجّم عليه في «النهار» قبل أن أصبح بعد ذلك بخمس عشرة سنة من المعجبين بفرادته وشجاعته). وعايشتُ الزمن العصيب، الزمن الشخصيّ والزمن العام، الذي أنتج فيه زياد الرحباني أولي مسرحيّاته، مخترقاً جدران الأزمات بأشفّ الألم الساخر الناسف. ورأيتُ أكبر مؤلّفي المسرح الفرنسي المعاصر، الروماني أوجين يونسكو، وأنا أروي له منتصف الستّينات في قصر الصنوبر ببيروت تفاصيل عن تجاوب الجمهور اللبناني مع «الملك يموت»، رائعته التي نقلتُها إلي العربيّة عام 1965 بطلبٍ من منير أبو دبس وقامت بتمثيلها فرقة مهرجانات بعلبك علي مسرح وست هول، الجامعة الأميركية رأيتُ يونسكو وقد بدأت الكأس تهتزّ في يده المرتجفة توجُّساً ممّا يمكن أن يكون مصير تلك المسرحية في العربيّة. يده المرتجفة وشفتاه المرتجفتان وذقنه المرتجفة وعيناه الهاربتان اللائذتان بأيّ شيء يقيهما الصدمة، ثم رأيته، وقد تطوّر السرد معي من خَجول إلي مقدام، رأيته ينفرج دفعة واحدة وتتهلّل أساريره ويصيح خابطاً علي الطاولة أمام ذهول الحضور والسفير الفرنسي: «تبّاً!... هذا ما كنتُ أريده من المُخرج الفرنسي! تبّاً لهم! قلت لي إنّهم بكوا وضحكوا!؟ صحيح!؟ تبّاً! تبّاً يا صديقي! أنت أخي وصديقي! تعالي يا زوجتي تعالي صافحي هذا الرجل! فهمني العرب ولم يفهمني الفرنسيّون!!!». عودة إلي زياد الرحباني ومقارنة سريعة بينه وبين وودي ألنْ. كلاهما مرّ، مزّ، مضحك مِن ألم. كلاهما «شرقي»: في وودي ألن جينات الشرق التي يحملها اليهودي من أيّ جنسيّة كان. ألنْ أكثر شخصانيّة. زياد يُواري شخصانيّته في ثري الهموم الجماعيّة. كاريزما ألنْ مبنيّة علي بهدلته لنفسه (في خطّ شارلي شابلن) واستثماره «السخريّة اليهوديّة النيويوركيّة» وما تيسّر من المفاتيح الفرويديّة، وكاريزما زياد هي هو: مجرّد وجوده في المكان، دفءُ صوته، خليطُ النورِ والظلّ في وجهه، غضبه، عزفه علي الوترين: موسيقاه وقهر الناس. وقهر الوحيد المستوحد بين الناس. وخَلْف ذلك وأمامه دوماً صلابةُ متمرّدٍ يستعصي علي التدجين.
من مواضع الضعف في المسرح اللبناني السابق لزياد اتّكاؤه في الغالب علي الترجمة وافتقاره إلي الانبثاق من الواقع اليومي. قلباً وقالباً. المسرح اللبناني السابق لزياد (وأنا مسؤول عن ترجمة أكثر من اثنتي عشرة مسرحيّة لتلك الحقبة، ابتداءً بشكسبير وانتهاءً بجون ميلينغتون سينغ مروراً بكامو وبرخت ودورنمات) كان مسرح الحداثة الغربيّة، بالإضافة إلي بعض الكلاسيكيّات الأوروبيّة طبعاً كمدخل لا بدّ منه. وكان المسرح الشعبي موجوداً وله نجومه، وأشهرهم شوشو (حسن علاء الدين). ولكن لا مسرح النخبة ولا مسرح الشعب آنذاك حقّقا الإجماع الشعبي الجماهيري حولهما. المسرح الرحباني الفيروزي استثناء، ولا شكّ أنّ العنصر الغنائي، وتاجه فيروز، هما سرّ شعبيّته بل أيضاً سرّ ديمومته، بالإضافة إلي موهبةِ التوفيق بين الحسّ الشعبي والاشتغال الذهني والثقافي علي جميع مكوّنات تلك العمارة. مسرح زياد مرحلة جديدة، خصوصاً مسرحيّاته القائمة بصورة رئيسيّة أو شبه كاملة علي الكلام غير الملحَّن. هذا مسرح شخص. (له في ذلك سوابق، لعلّ أبرزها ريمون جبارة). مسرحُ وجدانِ شخص ينفجر ويتشظّي بوجوهٍ عديدة. وجدانُ شخصٍ يتحوّل إلي وجدانٍ عام. يصنع جيلاً بل أجيالاً من الصبايا والشباب نطق عنهم حين نطق باسم حاله. ثم صمّم علي صياغة دربه الموسيقي، مُثْرياً هذا الحقل بنتاجٍ لم يأخذ بعد حقّه من اعتناء الباحثين. أصيب المسرح والجمهور بخسارةٍ فادحة يوم احتجب عنهما زياد. لا بدّ من استعادته. من عودته. لو كنّا في الاتحاد السوفياتي لكانت الدولة أجبرته علي العودة. تلك واحدةٌ من حَسَنات الديكتاتوريّة.
كان بول غيراغوسيان (1926 1993) يتكلّم، إلي جانب الأرمنيّة، بضع لغات، ومرّة استكتبتُه ل«الملحق» مقالاً بالعربيّة. أكبر فنّاني جيله اللبناني. كنّا صديقين حميمين، ولا تزال كلماتٌ وأفكارٌ له تتفاعل في ذهني. كان بول غيراغوسيان يكره المسرح رغم اضطلاعه بديكور بعض المسرحيّات. وكان بين أصدقائه الأوائل المسرحي جلال خوري. ومع هذا كان يكره المسرح. لعلّ لوحاته، الوجوه فيها ولا سيما وجوه النساء، المنحنية بخَفَر رغم امتدادها في الارتفاع، تُنْبئنا بسرّ هذا النفور. لكنّه نفورٌ وقفَ عند أبواب مسرح زياد الرحباني. مثله في ذلك مثل كثيرين ممّن لم يعجبهم العَجَب وسَحَرهم زياد. في عصره وما بعده فعل موليير فعله الخارق في المجتمعات. فعله الثوري. وعَبْر السخرية، المرّة والحلوة، العميقة والفظّة، الباطنيّة والصداميّة. سخرية التعرية، المواجهة، بل الانتحار. انتحارٌ يقوم من موته ويقيم الآخرين بنوعٍ من الفرح المطهِّر أساسه القهر.
بذكْر جلال خوري نعود إلي برتولت برخت. كان الشاعر والمؤلّف المسرحي الألماني يمنع تلامذته الممثّلين من التماهي مع أدوارهم ويحرص علي تعزيز الكلفة بينهم وبين هذه الأدوار. أعاد صاحب «الشذوذ والقاعدة» الحياة إلي المسرح الألماني فور عودته من أميركا بعد سقوط هتلر وظلّ متربّعاً علي عرش المسرح الأوروبي حتّي بزوغ نجم أنطونان أرتو ومسرح القسوة وسطوع شمس مسرح العبث مع بيكيت ويونسكو. وبين مسرحيي رعيلنا في الستّينات كان جلال خوري حاملاً لواء المسرح البرختي وغامرَ وقدّم نماذج منه للجمهور اللبناني. كانت حقبة تغلي بالشيء وعكسه. نَذَر شباب وصبايا أنفسهم للمسرح كما يذهب آخرون اليوم للاستشهاد. منير أبو دبس المخرج الأستاذ في مدرسته (المنبثقة من مهرجانات بعلبك الدولية) بمنطقة المنارة كان أشبه بقبطان المركب المسحور. كان أنطوان ملتقي، رفيق منير، وريمون جبارة وأنطوان كرباج ألمع الممثّلين في نظر الممثّلين أنفسهم. تشارك ملتقي وجبارة في الدورين الرئيسيّين في «جريمة وعقاب» المأخوذة عن رواية دوستيوفسكي فكانا يتبادلان الاستحواذ علي لبّ الجمهور. كان ذلك علي مسرح راشانا بحضانة ميشال بصبوص وإخوته (في الثلث الأوّل من الستّينات). لم أرَ ريمون جبارة في دور علي مقاسه كما رأيته في راسكولينكوف. الشعور بالذنب، هوي الجريمة وضمائر عواقبها، التيه والهذيان، انقشاع الوعي، قاتل ليس قاتلاً واعتزم أن يصير قاتلاً ولم يعد يعرف مَن يكون، المجرم النقيّ، العابث كولدٍ يرسل أصابعه تتوغّل في وكر الأفاعي... جبارة المعذَّب السافر الجريح الساخر، لو كُتب له أن يمضي في طريقه دون الإعاقة الصحيّة التي أصابته، أين كان سيصبح؟ إلّا أنّ راسكولينكوف جبارة لم يقتل أحداً. فَلَجَتْه عفويّته. أعاقته جزئيّاً وأوقف بجبروته باقي الصاعقة. بطحشة الحياة. بفجر عقله الذي يستهتر بالظلام. القَدَر اللئيم، تكمن قوّته في صمته. يزحف في زوايا النَفَق. قاومه الإنسان بالمواجهة وأخفق. قاومه بالاستسلام وأخفق. قاومه بالاستهتار ونجح. كلّ شيءٍ في قبضة الزمن إلّا التعامي عنه.
أسدت خالدة سعيد خدمة كبري لتاريخ المسرح اللبناني بما كتبته عنه توثيقاً وتقييماً. لا يعرف الجيل الجديد شيئاً عمّا كابده الروّاد منذ مارون النقّاش والقبّاني، فضلاً عن المصريّين. ثم مرحلة «المسرح الأدبي» مع سعيد عقل وميخائيل نعيمه وسعيد تقيّ الدين وتوفيق يوسف عوّاد وغيرهم. ثم حقبة التألّق الحديث التي بلغت الأوج في الستّينات ومطلع السبعينات. كان هناك يعقوب الشدراوي ومنير أبو دبس وأنطوان ولطيفة ملتقي وأنطوان معلوف وبرج فازليان وروجيه عسّاف ونضال الأشقر وشكيب خوري وجلال خوري وعصام محفوظ في ضفّة، وفي الضفّة الأخري شوشو ووجيه رضوان. ضفّة الحداثة الثقافيّة الطليعيّة وضفّة الخضمّ الشعبي. هنا وهناك الكبار الذين نشأوا كباراً وهم بعدُ بادئون، الكبار الدائمون: أنطوان كرباج، ميشال نبعة، تيودورا راسي، رضي خوري، مني جبارة، رونيه ديك، ليلي ضو، موريس معلوف، نبيه أبو الحسن، أندريه جدعون، جوزف بو نصّار، ميراي معلوف، رياض غلميّة، وغيرهم وغيرهم. كانوا قريبين منّا ولم يقلّل قربهم من دهشتنا بهم. كانوا قريبين وبعيدين مثل الشبيه الذي يعذّبكَ ويسعدك استعصاؤه علي التدجين. فنّانون كلّما اقتربتَ منهم وجدتهم أشدّ استحقاقاً لهالاتهم، أوّلاً لأنّهم مطبوعون، ثم لأنّ مسرحهم ذاك كان جديداً علينا كلّ الجدّة، ومعهم باتت خشبة المسرح محراباً ولم تعد منبرَ خطابة. لم نعد بحاجة إلي تغريب اصطناعي أو لغوي لنؤخذ بما نشاهد، صار الجديد يخلق المسافة، وبراعة المخرجين ومواهب الممثّلات والممثّلين تمسح جباههم بزيت الاكتشاف المقدّس.
هذه الذكريات هي ذكريات. ليست حسرات، مهما أوحتْ. جيل اليوم يصنع مسرحه. بورك به. خصوصاً فدائيّو المسرح «الداخلي»، مسرح الذات والصدق، مسرحٌ بات أكثر فأكثر اهتماماً بالحميم والخبيء، بالسريع العطب، مسرحٌ يقوم علي المعاناة الإنسانيّة والنفسيّة بمقدار ما يقوم علي موهبةِ الممثّلين وبراعتهم وحضورهم. في المسرح الماضي أجزاءٌ منّي ومن زوجتي. ولي في الماضي والحاضر أفرادٌ من أسرتي. والآخرون جميعاً أسرة لي. لم أعد أتردّد كثيراً إلي المسرح، باتت الذاكرة المسرح الأكبر. لكنّي أتابع همومه وأحلامه من خلال حفيدتي يارا بو نصّار، وممّا يغذّي الآمال أنّ جيلها يغامر ويفتح الأبواب المغلقة مثل جيل أبيها ومَن قبله، وأحياناً أكثر. بورك بهم. وتحيّة إلي مسرحيّي سوريا. بعد سطوع نجمهم وتفوّقه ها هم منذ سنتين يغامرون بأرواحهم. يتوقّف التمثيل ويبدأ الواقع. يتعطّل الحلم ليدخل الكابوس.
يعلّمنا الفنّانون أن نؤمن بشيء فينا يتجاوزنا. كم هو قليل ما نطلب وكم هو ما يعطوننا كثير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.