الأسبوع الماضي كنت علي موعد مع رحلتين خارجيتين متتابعتين، الرحلة الأولي إلي المملكة المتحدة بدعوة من جامعة كينجستون لحضور مؤتمر علمي حول المرأة العربية المبدعة، والدعوة الثانية إلي بيروت للمشاركة في المؤتمر الأول للسياسات الثقافية في الوطن العربي الذي تنظمه مؤسسة المورد الثقافي بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي، بين المؤتمرين كان ينبغي أن أمر بالقاهرة لساعات لبعض مواعيد العمل ولإلقاء محاضرتي لطلابي بجامعة القاهرة، ثم الانطلاق إلي المطار مرة أخري في الطريق إلي بيروت، أنا أستمتع بالسفر للخارج بعد سنوات من الحرمان بسبب رهاب ركوب الطائرات الذي شفيت منه وأنا في سن التاسعة والأربعين، لذلك أحاول ألا أضيع أي فرصة للسفر لتعويض ما فات فيما تبقي من العمر، المشكلة أنني أمام رحلتين قصيرتين مليئتين بالعمل بعد أسبوعين حافلين بالعمل شهدا ثلاثة مؤتمرات دولية متوالية في المجلس الأعلي للثقافة، منذ يوم 28 مارس حتي 9 إبريل، وأيام من العمل المتواصل من الثامنة صباحا حتي منتصف الليل، مع ذلك قبلت المشاركة في المؤتمرين وأعددت أوراقي. يوم الأربعاء الماضي توجهت إلي المملكة المتحدة للمرة الأولي في حياتي، طائرة الخطوط الجوية البريطانية تغادر في السابعة والنصف صباحًا، عليَّ إذن أن أكون في المطار في الخامسة، ذهبت في الموعد وتناولت إفطاري بمطار القاهرة، التقيت في بوابة المغادرة بالمخرجة المصرية هالة جلال المدعوة للمؤتمر هي الأخري. كانت الرحلة مريحة وصلنا إلي مطار هيثرو لم نجد سائق التاكسي في انتظارنا كما أخبرنا المنظمون للمؤتمر، اتصلت هالة بالدكتورة نهي مولر الأستاذة بجامعة كينجستون ومنظمة المؤتمر، وهي مصرية الأصل، أبلغتنا أن السيارة تلتقط زائرة أخري من لبنان من صالة أخري في المطار وستكون عندنا في خلال دقائق، وبالفعل قبل أن ننتهي من شرب قهوتنا، كان السيد توني سائق التاكسي يبحث عنا، نقلنا التاكسي ومعنا المخرجة اللبنانية الشابة كورين شاوي إلي فندق أنتونيت بكينجستون حيث نقيم، في الطريق مررنا بقصر أثري يرجع لهنري الثامن كما شرح لنا سائقنا، كما مررنا علي نهر التيمز، إنه نهر كبير يشبه نهر النيل في حجمه، علي ضفة النهر عشرات من العوامات المسكونة، تذكرني بعوامات القاهرة التي انقرضت تقريبًا ولم يتبق منها إلا آحاد قليلة في منطقة الكيت كات، أذكر في طفولتي في الخمسينيات من القرن الماضي عشرات العوامات علي شاطئ النيل من كوبري عباس إلي كوبري إمبابة، ظلت تنقرض وترحل إلي الشمال لتنحصر في هذا العدد القليل الذي تبقي منها، لماذا أزلناها؟ لا أعرف، هل لنحول شواطئ النيل إلي نوادٍ خاصة للنقابات والهيئات المختلفة؟ ربما! هذا ما فكرت فيه عندما شاهدت عوامات نهر التيمز. بعد وصولنا بساعة غادرنا ضاحية كينجستون الهادئة إلي لندن بالقطار، فالمؤتمر لن يبدأ إلا صباح الخميس، وقد لا تأتي فرصة أخري لزيارة المدينة لأن المؤتمر سيتواصل علي مدي يومي الخميس والجمعة، وسنغادر لندن بعد ظهر السبت، هذا ما كنا نتصوره وقتها! أخذنا خريطة لمنطقة كينجستون من موظفة الاستقبال في الفندق، وشرحت لنا الطريق إلي محطة ساربتون للقطارات، وهي الأقرب إلي الفندق وخطوطها الأسرع في الوصول إلي لندن. ذهبنا إلي المحطة، هالة وأنا، أول انطباع تطرق إلي ذهني عندما شاهدت محطة ساربتون، إنها المرة الأولي التي أدرك فيها أن مصر كانت مستعمرة بريطانية، وتأكد الشعور بقوة عندما وصلنا إلي لندن، ونزلنا في محطة وترلو، طراز محطة ساربتون من الخارج نفس طراز محطة سيدي جابر، ربما مبني محطة سيدي جابر بلونه الحجري الأحمر أجمل من مبني محطة ساربتون الأبيض، بطول الخط تشعر بتأثير قوي لتصميم محطات القطارات في إنجلترا علي محطات القطارات القديمة في مصر كلها. تذكرنا محطة باب اللوق ومحطة مترو المعادي القديمة التي هدمت بلا مبرر مفهوم بعد تشغيل مترو الأنفاق بشهور قليلة لتحل محلها مبان قبيحة لا طابع لها. أخذنا نتجول في منطقة ويستمنيستر بمبانيها التاريخية وجسورها المتميزة وحدائقها التي تشغل التماثيل حيزًا واضحًا فيها، أدركت لأول مرة أيضًا معني القوة الاستعمارية الكبري التي كانت عليها بريطانيا في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، زرنا الأكواريوم، متحف الأحياء المائية، وتحسرنا علي ما آلت إليه أحوال حديقة الأسماك لدينا. عدنا في المساء إلي كينجستون، فقدت الطريق في حالة نادرة من حالات فقدان الاتجاه عندي، فإحساسي بجغرافيا المكان عال، لكن الشوارع متشابهة والعلامات التي وضعتها موظفة الاستقبال علي الخريطة كانت بمظهر فسفوري أصفر اختفي تماما في الإضاءة الليلية للشوارع، لم نضل الطريق طويلاً ووصلنا بعد سؤال بعض المارة. عدنا لنستعد لليوم الأول من أيام المؤتمر.