في تلك الأيام الخوالي في نهاية الستينات من القرن الماضي، بدأ حلم السفر والترحال إلي بلاد الله يطاردني في الصحو والمنام، كانت القاهرة أو مصر هي المبتغي والمرتجي، لم يكن السؤال: كيف أو إلي أين؟.. بل كان.. متي؟.. وكان ذهابي إلي محطة قطار قنا بصفة منتظمة لرؤية القطار المجري الفضي المكيف ذي الخطين الأحمر والأسود، متعة لا تضاهيها متعة، ولولا صغر سني وقلة خبرتي وقتها والخوف من المجهول، لدلفت داخل أي قطار أسأله الرحيلا. حلم السفر والترحال ظل يطاردني حتي عندما تحقق وقتها بذهابي إلي الإسكندرية في عام 1970، وتذكرت إنني سافرت إلي الجيزة وبني سويف بشكل منتظم عندما كنت صغيراً، ولم أكن أدرك طبائع الأشياء والآمنة والأمكنة، رؤية البحر في الإسكندرية للمرة الأولي أصابتني بالذهول والإعجاب، لتتوالي داخلي أسئلة بلا إجابات: هل يمكن أن أقيم هنا إلي الأبد؟.. هل تصبح الإسكندرية بديلاً لمحافظة قنا؟.. ولكني مفتون بالقاهرة «أم الدنيا» كما كنت أشاهدها في الأفلام، إذن يجب أن تصبح هي البديل الأفضل لمسقط رأسي ولتحقيق أحلامي المستقبلية، ولم أدرك وقتها أن السفر سيكون قدري وحبي وعذابي. منذ سفري إلي الإسكندرية أصبح السفر والترحال متعتي الحقيقية، حتي أدب الرحلات كان هو المفضل بين كتبي التي أقرأها، ورغم شغفي بالكتب السياسية والتاريخية وأدب المذكرات والأدب والفن عموماً، إلا أن أدب الرحلات كان له مذاق خاص، وقد زاد ولعي بهذا النوع من الكتب مبكراً، أذكر إنني قرأت الرواية البريطانية الشهيرة «حول العالم في 80 يوم» في المرحلة الاعدادية وحرصت علي مشاهدة الفيلم الذي يتناول الرواية للمقارنة بينهما، واكتشفت أنيس منصور بالصدفة عندما قرأت له «بلاد الله خلق الله» و«حول العالم في 200 يوم» و«دنيا عجيبة»، أما مؤلفات الراحل محمود السعدني عن الغربة والسفر، فيندر أن تتكرر لسخريته التي ليس لها مثيل. كما اكتشفت بالصدفة أيضاً أن صديقي الكاتب والمترجم أحمد هريدي مولع بأدب الرحلات أيضاً، أذكر إنني قرأت له لأول مرة «أمريكا.. سري جداً» في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، لتتوالي بعدها أعماله المتميزة وأشهرها «وردة الشمال.. أيام في استكهولم» و«لبنان.. هبة الجبل» و«رحلة إلي المغرب» و«تونس البهية»، ومن أشهر ترجمات هريدي «رواية شعب يوليو» و«مذكرات بيتر أرنت» و«فاروق ملك مصر» و«رواية ميراث الخسارة» و«عائلة كيندي» و«زهرة الكركدية». السفر عند أحمد هريدي.. قصة عاطفية تبحث عن مسافر عاطفي، روحه عطشي لمعانقة كل ماتصادفه من جديد في طبائع البشر وغرائب البلدان وجمال المنظر الطبيعي، وقصة السفر.. مكانها مخيلة المسافر، وزمانها حر طليق وأبطالها الطبيعة والبلدان والإنسان.. والسفر بالنسبة له: «شفاء من قلق الروح.. وموسيقي للقلب.. وسلام للعقل، والحل إذن في السفر والترحال، حيث اكتشاف الحياة في مكان آخر، واكتساب المعرفة بالآخر المتمثل في البشر والمدن والطبيعة». وفي كتابه «رحلة إلي المغرب»، حلق أحمد هريدي في فضاءات المدن المغربية.. «مراكش» المرأة الوردة و«أغادير» امرأة البحر و«الدارالبيضاء» بلد المحبوب، و«الصويرة» التي تستحم في مياه المحيط عند مغيب الشمس في كل مساء، وسأل نفسه كل هذا البهاء الذي يستشعره بداخله ويملك عليه كل حواسه، هل يسمح له بأن ينعم برحيل هادئ، عندما تنعم ساعة الرحيل عن شمس المغرب وعندما لا يكون هناك مفر من المغادرة؟ الرحيل من بلد إلي آخر عند هريدي، ليس مجرد سفر أو هروب من واقع سيىء إلي واقع أكثر جمالاً، بل رغبة حقيقية مع سبق الإصرار والترصد، وعلي حد تعبيره «لا شيء يحول دون قدوم الخريف، ولا شيء يحول دون السفر إلي مدينة جديدة.. فكما لا تملك طيور الشمال إلا الرحيل بحثاً عن دفء الجنوب في فصل الخريف، أنا أيضاً لا أملك إلا أن أعد حقيبة السفر، وأهدهد روحي القلقة، التي طالما زينت لي طويلاً أن هناك دائماً، في مكان ما، مدينة جميلة جديدة، ستمنحني وجهها طواعية، وتسمح لي أن أقيم معها علاقة عاطفية». وفي رحلته إلي الصين.. يري هريدي أن «الإنسان الصيني يخطو بخطوات متسارعة قوية، وعلي وجهه الفتي إمارات الجدية، ويتساءل: أتراه في عجلة من أمره لكي يلحق بعمله كفرد من أفراد الكورال الكبير، الذين يأخذون علي عاتقهم إنجاز المشروع القومي الضخم، الذي تتضافر فيه جهود المغني والعازف الفرد مع جهود المغنين والعازفين؟». كما يصف لنا رحلته إلي تشيكيا قائلاً: «أري الموسيقي من حولي، مثلما رأي الكندي الفيلسوف العربي القديم علاقة بين الموسيقي والفلك والكواكب والفصول والشهور والأيام، مثلما تكلم فيثاغورس العالم اليوناني القديم عن انسجام الأفلاك، وقال إن حركتها موسيقي، وعندما أرحل.. أطلب الإذن من الغابة، والأشجار، والجبل الذي يرمقني من أعلي في حنان، ومن العذاري الفاتنات اللائي يقمن في الجبال والغابات والمروج والمياه».