ترجمة: حاتم حسين زرت عدداً كبيراً من معالم العالم التي يحاول الذين يشيدونها تخليد أشخاص أو مدن معينة من خلالها. هذه الصروح تبرز رجالاً يمتطون جياداً لم يعد يذكرهم التاريخ، ونساءً يعتمرن تيجان ويحملن سيوفاً يرفعنها نحو السماء، رمزاً لانتصارات لم تعد مذكورة في كتب المدارس. رأيت تماثيل لأطفال مجهولي الهوية فقدوا براءتهم للأبد، بعد تلك الساعات والأيام الطويلة التي قضوها واقفين أمام النحاتين الذين جسدوهم، والذين نسيهم التاريخ بدورهم. على الرغم من ذلك فإنه يتبين أنه ليست التماثيل هي التي تخلد ذكرى مدينة معينة (مع وجود بعض الاستثناءات القليلة في هذا الشأن) وإنما هناك أشياء غير متوقعة هي التي تخلد الذكرى. عندما شيد إيفل البرج الذي يحمل اسمه لم يكن يحلم بأنه سيصير رمزاً لمدينة من أهم مدن العالم، على الرغم من أن المدينة نفسها تحتوي على متحف اللوفر وقوس النصر والحدائق الخلابة التي تنتشر بين ربوعها. وهناك تفاحة كبيرة ترمز إلى مدينة نيويورك. وهناك جسر لا يستخدمه أناس كثيرون يرمز لسان فرانسيسكو. وتوجد في برشلونة كاتدرائية لم يتم الانتهاء منها بعد، ولكنها أكثر رموز المدينة شهرة. وفي موسكو، هناك ميدان تحيطه مجموعة من المباني واسم لم يعد يمثل الحاضر (وهو الميدان الأحمر الذي يخلد ذكرى الشيوعية) يمثلان أهم معالم المدينة. وهناك الكثير من الأمثلة في هذا الصدد. وربما في ضوء هذه المعطيات، فكرت إحدى المدن في عمل أثر لا يظل على حالة واحدة طوال الوقت أثر يتغير كل ليلة ويعاود الظهور كل صباح ويتغير كل لحظة من لحظات اليوم اعتماداً على قوة الرياح وأشعة الشمس. تقول الأساطير إن صاحب الفكرة هو طفل صغير فكر في الأمر عندما كان يتبول في أحد الأماكن. وعندما فرغ من الاستجابة لنداء الطبيعة، قال لوالده إن المكان الذي يعيشون فيه يمكن حمايته من الغزاة إذا احتوى على تمثال قادر على الاختفاء والتلاشي عندما يقترب الغزاة من المكان. وقرر الوالد أن ينقل الأمر إلى مجلس المدينة الذي كان أعضاؤه يتبعون سياسة الحماية ولا يؤمنون بأي حلول أو أشياء تخالف المنطق السليم؛ غير أنهم قرروا الاستجابة لنصيحة الطفل الصغير. وفي تلك الآونة كانت هناك مسألة جدلية تتعلق بنهر يصب بقوة في إحدى البحيرات ويتسبب في تيار نهري قوي، الأمر الذي ساعد على بناء سد لتوليد الكهرباء هناك، ولكن عندما عاد العمال إلى منازلهم وأغلقوا الصمامات كان الضغط عالياً للغاية وانفجرت التوربينات في نهاية الأمر. واستمر الوضع على ما هو عليه، حتى جاءت أحد المهندسين فكرة مفادها أن يتم وضع نافورة في المكان الذي يتدفق منه الماء الزائد. وبمرور الوقت، تم إيجاد حل هندسي للقضية، وأضحت النافورة غير ضرورية. غير أن السكان قرروا الإبقاء عليها، ربما لأنهم قد تذكروا أسطورة الطفل الصغير. المدينة كان بها أكثر من نافورة، وكانت النافورة المعنية وسط بحيرة إذن ما هو الأمر الذي يمكن فعله حتى يمكن إظهارها؟ من هنا جاءت فكرة الرمز المتحرك الذي فكر فيه الطفل. فقد تم تركيب مضخات قوية للغاية، والآن هناك آلة ضخ تضخ 500 لتر من الماء في الثانية الواحدة بسرعة 200 كيلو متر في الساعة. ويقال، وقد تأكدت من هذا القول بنفسي، إن هذه النافورة يمكن رؤيتها من خلال طائرة تطير على ارتفاع 10 آلاف متر. لم يطلق عليها أي اسم خاص، فهي تحمل اسمها البسيط «نافورة». وأضحت هذه النافورة رمز مدينة جنيف، وهي المدينة التي لا توجد بها تماثيل رجال أو جياد أو نساء بطلات أو منحوتات لأطفال. وعندما سُئلت عالمة سويسرية تدعى دينيس عن انطباعها عن النافورة، قالت: «جسم الإنسان قوامه الماء الذي من خلاله تمر الشحنات الكهربائية لتوصيل المعلومات. إحدى هذه المعلومات هي الحب. هذا الحب هو العاطفة التي يمكن أن تتدخل في كامل الجسم البشري. فالحب يتغير طوال الوقت. وأنا أتصور أن رمز مدينة جنيف هذه هو أجمل أثر يمكن أن تحبه من صنع فنان». لا أعرف شعور طفل الأسطورة حيال هذه النافورة، ولكنني أعتقد أن دينيس على حق تماماً فيما تقوله. المصدر: جريدة "البيان" الإماراتية. بتاريخ: 4 مايو 2008.