كنت مع بعض زملائى متجهين إلى اجتماع من الاجتماعات الدورية الكثيرة.. التى اعتدناها منذ أكثر من عامين على قيام الثورة.. وفى طريقنا.. التقيناه.. شاب فى العشرينيات من العمر.. نحيف.. نحتت ملامحه الصعيدية بحرفية رائعة من الخالق العظيم.. كانت هناك رعشة لا إرادية تطيح برأسه يميناً ويساراً بلا توقف.. لم يستطع الوقوف كثيراً فجلسنا.. وبعد أن تعرف علىّ وقال لى (مش إنت بتاع 6 إبريل).. أخذ يقص ويروى - بلهجته الصعيدية الرصينة - كل شىء عن حياته التى تغيرت منذ جمعة الغضب فى 28 يناير 2011 وحتى الآن. هو عماد سليمان.. 28 عاماً.. يعمل فكهانياً فى أقاصى الصعيد فى قرية تقع فى محافظة سوهاج.. ركب القطار قادماً إلى القاهرة فى يوم 28 يناير 2011، للمشاركة فى جمعة الغضب.. ولم يعد إلى بيته حتى الآن.. فهو من سكان ميدان التحرير.. ظل مرابطاً به على مدار أكثر من عامين.. ولم يتركه إلا مرات قليلة منها يوم 9 مارس 2011.. وفى يوم فض اعتصام 8 يوليو فى غرة شهر رمضان مع بدايات شهر أغسطس 2011. ففى يوم 9 مارس 2011 كان أول اعتصام تم فضه بالقوة من قبل الشرطة العسكرية.. حيث أصيب عماد بطلق نارى فى قدمه اليمنى.. وتم نقله إلى المستشفى الميدانى المقام فى مسجد عمر مكرم.. وبعدها تم القبض عليه، واحتجازه فى سجن مجلس الشعب.. ثم نُقل إلى سجن عابدين.. حيث تعرض للتعذيب والإهانة. أما عن فض اعتصام 8 يوليو 2011 فى أول أيام شهر رمضان فتم القبض على عماد من قبل الشرطة العسكرية أيضاً.. ليرحل إلى السجن الحربى، ويقبع به 22 يوماً.. تعرض فيها لحفلات تعذيب بالكهرباء.. ولم تتوقف الدموع التى انهمرت من عينيه وهو يحكى تفاصيل تعذيبه القاسية.. حتى أصيب بشلل رعاش رباعى.. ليخرج من السجن.. ويلجأ عماد للمجلس القومى لرعاية أسر الشهداء ومصابى الثورة.. ويستكمل كل الأوراق المطلوبة للحصول على العلاج.. إلا أنه لم يحصل على أى شىء.. ولم يجد من ينفق عليه. بعد أن طرق عماد كل الأبواب الموصدة.. حتى يحصل على العلاج.. ونفقة تمكنه من العيش.. بعد إصابته بالعجز وعدم القدرة على العمل.. وعدم وجود مأوى له.. ما كان من عماد سليمان إلا أن طلب من أحد المحامين، الذى تعرف عليه فى ميدان التحرير، أن يصطحبه إلى السفارة الألمانية.. بعد أن علم أنه ليس له علاج بمصر، وأن حالته تستوجب السفر إلى ألمانيا.. وعندما وصل عماد إلى السفارة الألمانية.. وطلب لقاء أحد موظفى السفارة لطلب العلاج.. قوبل بحفاوة شديدة.. حيث التقى السكرتير الأول للسفارة الألمانية.. الذى أتى بمترجم.. ليتعرف على قصته بالتفصيل.. ويعرض على عماد اللجوء السياسى لألمانيا.. بعد تعرضه للاضطهاد فى مصر.. وأن الدولة الألمانية ستوفر له العلاج الكامل والمسكن اللائق والنفقات اللازمة للعيش.. وعند تحديد موعد السفر، وبعد استكمال الإجراءات.. فإن طائرة عسكرية ألمانية ستهبط فى مطار القاهرة لتحمله إلى الأراضى الألمانية.. ليدخل إلى مستشفى عسكرى تابع لوزارة الدفاع الألمانية. غمرت الفرحة عماد.. وعندما أكمل السكرتير الأول للسفارة الألمانية كلامه.. ما كان من عماد سوى أن انهمرت الدموع من عينيه بعد أن وضع الدبلوماسى الألمانى عدة شروط والتزامات عليه حتى يتم اللجوء السياسى، وهى التنازل عن الجنسية المصرية.. وعدم العودة إلى مصر حتى نهاية عمره. فيتساءل عماد.. لقد شاركت فى الثورة وتعرضت للتعذيب والعجز والإهانة من أجل مصر.. فكيف لا أراها مرة أخرى حتى الممات.. فالدموع لا تفارق عماد ليل نهار.. وهو فى حيرة من أمره.. أيرحل إلى ألمانيا حيث العلاج والمسكن والنفقة.. ولا يرى مصر ثانية.. أم يبقى عاجزاً.. جائعاً.. مشرداً.. مطارداً.. مهدداً.. فى شوارع القاهرة القاسية على واحد من أبطال ثورة يناير اسمه.. عماد سليمان؟