بيروت (رويترز) - تحكي سلوى النعيمي في "شبه الجزيرة العربية" وهي روايتها الاخيرة قصة الوطن العالق في الحلق كلقمة لا يمكن ابتلاعها ويستحيل بصقها. الشاعرة والروائية والصحافية السورية التي تعيش وتعمل في باريس تروي قصة البعيدين عن وطنهم ابعادا او بعدا "اختياريا" تفرضه ظروف معينة. انها تحكي عن هؤلاء الذين يموتون في الغربة بأمراض مختلفة منها السرطان وغيره لكنهم في كل الحالات يموتون بعلة واحدة خفية الا وهي ذلك الحنين الى الوطن الذي لم يعودوا قادرين على الرجوع اليه. انها ميتة بغصة حارقة كاوية قتالة ولو تعددت اسباب الموت الطبية. الرواية التي صدرت عن دار رياض الريس للكتب والنشر في بيروت جاءت في 164 صفحة متوسطة القطع. سلوى النعيمي تكتب بلغة شعرية نفاذة وتجعل من الصعب على القارىء التفلت من قراءة ما تقوله. الا ان سلوى كانت قاسية جدا على الوطن والنفس قسوة يمكن ان تفهم حبا انقلب ولو ظاهريا الى عكسه شأن من احب واكتشف خيانة المحبوب او امتلاك قوى اكبر منه لهذا المحبوب.. قوى سلبته ذكرياته وحتى طفولته. وتبدو الكاتبة كمن علق بين اكثر من انتماء واحد فسيطرت عليه الحيرة القاسية. الانتماء الى الجذور وقد كانت مرة والانتماء الى الانسانية جمعاء من خلال الانتماء الى وطن جديد بديل قدم لك الحفاظ على الكرامة وحقوق الانسان والعمل المشرف والاحترام والحرية والتحرر من الخوف والالتفات حولك ووراءك. انها مليئة بأسئلة منها الخاص ومنها العام او الوجودي الذي سرعان ما نكتشف انه "خاص جدا". اسئلة لا يبدو ان هناك اجوبة عنها. تكتب سلوى النعيمي روايتها في ما يشبه صفحات او وجوها من حياة.. حياتها وحياة اناس اخرين في نبض شعري حي ليتشكل من مجموع ذلك رواية هي شخصيتها الرئيسية وتتناول كذلك شخصيات تمثل جيلا من الناس احلاما ومصائر. في فصل عنوانه "من بعدي الصحراء" تقول سلوى "تنقصني جنة ضائعة. جنة الطفولة في ماضي الايام او جنة الله ما بعد الموت. لا تنقصني الجنتان. ينقصني ان اراوح بينهما.. ان انتقل بين واحدة واخرى. ينقصني ان اجمعهما معا. ربما. لا جنة في تاريخي.. "يخيل الي انني لم اعرف الطفولة. الطفولة كما يحكي عنها الاخرون لا اعرفها. اذكر فقط انني فتحت عيني على هذا العالم وانا اتفقد ما حولي ومن حولي بحذر عابث. "اسأل نفسي ولا اجرؤ على ان اسأل الاخرين. هل كنت واثقة ان احدا لن يجيب عن اسئلتي.. هل كنت واثقة ان اسئلتي لا تسأل ففضلت ابتلاعها والبحث عن الاجوبة بنفسي. تعودت ان اعتمد على نفسي في التعرف على العالم." تضيف "فتحت عيني على الاسئلة المدفونة في غرف مقفولة بعناد امام فضول الاخرين. غرف... مقفولة من الخارج مفتوحة من الداخل على بعضها والريح تحمل الكلمات بينها عابثة بتاريخي. لم يهددني احد. لم يحذرني احد. انا التي اغلقت وانا التي فتحت." وتقول "ربما كانت الطفولة هي المكان الاول. ربما كان هذا هو ما ينقصني. ربما ينقصني مكان احن اليه. وكأن المكان الاول لم يكن. كان من السهل ان احمل حقيبتي وأرحل. من السهل ان اقتلع نفسي.اقتلع.. لا. استعمال هذا الفعل في غير محله. لم يكن اقتلاعا.. انزلاقا.. انزياحا.. تحولا. انزلقت.. انزحت.. تحولت من مكان الى اخر. تسربت كما تتسرب المياه. "ما اعرفه هو ان طريقي ليست مغلقة على نفسها. ليس هناك طرفان لدائرة تريد ان تنغلق بالعودة الى المكان الاول. لا عودة الى المكان الاول. اسطورة اوليس ضحك على الذقون بتنوع اشكالها. لقنونا ان المكان الاول يجب ان يكون المكان الاخير. لماذا؟ لماذا علي ان اموت في المكان الذي ولدت فيه. ربما كان هذا صالحا للادب والحياة والشعر ولكنه لم يعد صالحا للاستعمال الان.. علينا خلق اساطير جديدة. اسطورة من يخرج ولا يعود. اسطورة من استغنى عن مسقط الرأس. اسطورة لا مكان فيها للغربة والحنين والبكاء على الاطلال. كل مكان هو مكاني. العالم لي وانا بنت هذا العالم." لكن علينا الا نأخذ كل ذلك في ما يشبه المسلمات.. فالبطلة مسكونة بالوطن الذي لا تسكن هي فيه. ولعل هذا سبب من اسباب هذه النقمة والثورة. تقول مثلا خلال زيارة الى بلد عربي مشكّلة الوطن كما تتمنى وهي التي عاشت في دمشق حيث لا بحر "من سورية.... يعيد البائع ورائي مرحبا بالعربية بابتسامة من القلب. في احلامي السرية اراني هناك في مدينة على البحر خارجة من الماء واخوتي يتسامرون على الشاطيء وكأننا في بيتنا. هناك لم ادخل البحر يوما ولم اخرج منه. هناك كنت في مدينة بلا بحر. لا اعرف طعم البحر هناك الا في احلامي." وتخلص الى القول هنا "هل كان كل ما احكيه لنفسي تعويضا عن جرح العودة المستحيلة.. هل كانت الحكاية بحثا عن وهم النسيان.. محاولة لاقناع نفسي انني اجريت عملية البتر وان ما اجتث لا يمكن ان يعود.. اطمئنان وهمي.. اين رأيت هذا الحصرم في حلبي او دمشق.. "حتى لو بترت سبابتي اراديا فهذا لا يعني انني لن امضي عمري اتفقد مكانها الفارغ واتعذب لغيابها.. ان اراها في احلامي منتصبة الى جوار الاصابع الاخرى. في احلامي امد يدي امامي وارى اصابعها الخمس مكتملة امام عينيّ. "قانون العودة.. قانون النهر محفورا من منبعه الى مصبه.. هل قامت الثورات كي تجبرنا على تصحيح المسار.. كي تجبرنا على عيش حكايتنا الاصلية .. على كتابة حكايتنا الاصلية.." وتختم البطلة المولودة في عائلة كبيرة لاب مسلم وأم مسيحية روايتها بالقول "ليست هناك خطيئة اصلية. هناك حكاية اصلية."