من المتوقّع أن تُلقى نتائجُ الانتخابات الرئاسية الأمريكية التى تنعقد فى نوفمبر المقبل بظلالها على سياسة واشنطن إزاء إيران، حيث إن المرشحَيْن المتنافسَيْن، الجمهورى دونالد ترامب والديمقراطى كامالا هاريس، لديهما رؤية مختلفة للتعامل مع إيران قد تنعكس على النهج الأمريكى فى الشرق الأوسط. كان ترامب قد انسحب إبّان ولايته الرئاسية السابقة من الاتفاق النووى مع إيران فى عام 2018، وأعاد العمل بالعقوبات الأمريكية، حيث اعتبر -آنذاك- أن الاتفاق الذى كانت قد أبرمته الإدارة الديمقراطية حينها بقيادة باراك أوباما فى عام 2015 «كارثى». ومن ثمّ فإن فوز أى من ترامب أو هاريس سيُلقى بتأثيراته على إدارة السياسة الأمريكية إزاء إيران. مفاوضات غير حاسمة قادت التحضيرات للسباق الرئاسى الأمريكى إلى عدم اتخاذ إدارة الرئيس الديمقراطى، جو بايدن، خطوة جدية حاسمة إزاء المفاوضات النووية مع إيران، والتى كانت قد بدأت فى إبريل 2021 لمنع إيران من التوصل إلى سلاح نووى. وعلى الرغم من مبادرة بايدن بإطلاق هذه المفاوضات بعد أسابيع من دخوله البيت الأبيض فى يناير 2021، إلا أن هذه المباحثات لم تستمر بعد سبتمبر 2022 ولم تُقْدِم إدارة بايدن على استئنافها حتى الآن. ومع أن أسباب توقف المفاوضات النووية الإيرانية مع واشنطن فى النمسا فى بداية الأمر كانت متنوعة، إلا أنه أصبح فى الإمكان استئنافها لاحقًا، وهو ما لم يحدث حتى الآن. يعود السبب الرئيسى لعدم إقدام إدارة بايدن على استئناف المفاوضات النووية مع إيران خلال الأشهر الماضية إلى خشيته هو والحزب الديمقراطى من تأثير التوصل إلى اتفاق نووى مع إيران على فرص فوز أى مرشح ديمقراطى فى الانتخابات المقبلة، قبل انسحابه من السباق فى 21 يوليو 2024 وترشيح نائبته كامالا هاريس. وترى دوائر السياسة الداخلية الأمريكية أن التوصل إلى اتفاق نووى مع إيران بشروط الأخيرة وبالصيغة التى تم التوصل إليها فى عام 2022 قبل توقف المفاوضات، سيكون بمثابة تنازل كبير لصالح طهران وليس واشنطن، وهو ما سيضر بحملة الديمقراطيين الانتخابية، ويُقلل من فرص فوزهم، ويعزز من آمال الجمهوريين، خاصة الرئيس السابق دونالد ترامب، وهو ما أدى إلى تردد كبير لدى الإدارة الأمريكية الحالية. تراجع الضغوط الأمريكية على الرغم من التقدم الذى أحرزته إيران فى برنامجيها النووى والصاروخى، فضلًا عن إنتاج المسيرات خلال إدارة الرئيس جو بايدن؛ إلا أن الأخير لم يتخذ إجراءات أو سياسات صارمة إزاءها سوى بعض العقوبات على الشركات المتعاونة أو ذات الصلة بها، وذلك على النقيض من حزم العقوبات الشديدة التى فُرضت على إيران خلال عامى (2021 - 2022). ويُمكن هنا الإشارة إلى أنّ العقوبات الأوروبية على إيران كانت أكثر بروزًا خلال فترة السباق الرئاسى الأمريكى، والتى كان من أهمها العقوبات التى أعلن عنها رئيس المجلس الأوروبى، شارل ميشال، فى 17 إبريل 2024، واستهدفت شركات إنتاج مسيرات وصواريخ إيرانية. فى الوقت نفسه، أدانت دول الترويكا الأوروبية (بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا) أكثر من مرة الأنشطة النووية الإيرانية، وفرضت عقوبات عليها، وكان من بين ذلك الرسالة شديدة اللهجة التى بعثت بها إلى مجلس الأمن لإيضاح «انتهاكات إيران للاتفاق النووى» لعام 2015 والمعروف باسم «خطة العمل الشاملة المشتركة». وسعت هذه الدول إلى زيادة الضغوط الأممية على إيران فى ظل تسارع أنشطتها النووية. على النقيض من ذلك، فإن ملف الأنشطة النووية الإيرانية لم ينل أولوية قصوى لدى إدارة بايدن خلال فترة التحضير للسباق الرئاسى، بل إن ما أقدمت عليه الإدارة تمثل فى التفاوض سريًا مع إيران فى هذا الصدد، وفرض بعض العقوبات غير المؤثرة بشكل واضح. تجنب الصراع العسكرى بالتزامن مع السباق الرئاسى، بدا من الواضح خلال الأشهر الماضية أن الولاياتالمتحدة تتجنب فى سياستها إزاء إيران الدخول فى صراع عسكرى معها ومع وكلائها فى منطقة الشرق الأوسط، أو حتى توجيه ضربة لمصالح إيرانية بالإقليم. فمع التقدم المُحْرَز فى البرنامج النووى الإيرانى والأنشطة العسكرية الإيرانية المتنامية فى المنطقة، واندلاع صراع بين إسرائيل وجماعات ووكلاء تدعمهم إيران بالإقليم فإنّ واشنطن سعت -ولا تزال– إلى منع الانزلاق إلى صدام أو عمليات عسكرية ضد إيران فى أى دولة بالإقليم. فقد اكتفت واشنطن بتوجيه ضربات محدودة لبعض الوكلاء الإيرانيين مثل «الحوثيين» فى اليمن، أو الجماعات الوكيلة فى العراق، وإن كانت هذه الضربات الأمريكية بالأساس قد جرت على الأغلب بالتعاون مع بعض الحلفاء الأوروبيين مثل بريطانيا، ولأغراض وقتية مهمة مثل الرد على استهداف هذه الجماعات لمصالح أمريكية فى المنطقة. وعليه، سعت الولاياتالمتحدة إلى تضييق نطاق أو تأثير عملياتها العسكرية المباشرة ضد إيران ووكلائها فى المنطقة، وعدم تنفيذ عمليات عسكرية واسعة ضدهم خلال السباق الرئاسى، وذلك سعيًا لتجنب تداعيات انخراط عسكرى أمريكى واسع فى منطقة الشرق الأوسط على الرأى العام الداخلى فى الولاياتالمتحدة، وبالتالى على آراء وتوجهات الناخبين الأمريكيين. من جانب آخر، لوحظ، خلال السباق الرئاسى، أن الولاياتالمتحدة ترفض الانسياق وراء الدعوات الإسرائيلية المتكررة لتشديد الخناق العسكرى والاقتصادى على إيران، سواء بسبب ملفها النووى أو أنشطتها ودورها الإقليمى، علاوة على التصريحات الإسرائيلية بشأن «دور إيرانى» فى عمليات «طوفان الأقصى» وما بعدها منذ ال7 من أكتوبر 2023. بالإضافة إلى ذلك، لم تنخرط واشنطن فى العمليات الاستخباراتية التى تقوم بها إسرائيل وتستهدف من خلالها مصالح أو شخصيات إيرانية أو موالية لإيران فى الخارج، وأكدت الولاياتالمتحدة فى أكثر من حادث على عدم مشاركتها إسرائيل التخطيط أو تنفيذ عمليات استخباراتية والتى كان آخرها اغتيال رئيس المكتب السياسى لحركة «حماس»، إسماعيل هنية، فى طهران خلال مشاركته فى مراسم تنصيب الرئيس الجديد، مسعود بزشكيان. فقد سعت واشنطن على النقيض من إسرائيل إلى محاولة تهدئة الموقف، وتحدثت بشكل غير مباشر مع طهران عن طريق الوسطاء لتجنب التصعيد الإقليمى. ختامًا، تنعكس معادلات السباق الرئاسى فى الولاياتالمتحدة على سياسة الأخيرة فى الوقت الراهن إزاء إيران، حيث تسعى واشنطن لعدم التصعيد مع طهران ووكلائها فى منطقة الشرق الأوسط، منعًا لتأثيرات ذلك على الناخب الأمريكى، والذى ترسخ فى ذهنه تداعيات الصراعات العسكرية الأمريكية الواسعة فى المنطقة على الاقتصاد والمصالح الأمريكية فى الخارج. فى الوقت نفسه، تخشى الإدارة الديمقراطية الحالية التوصل إلى اتفاق نووى مع إيران غير مرضٍ لقطاعات فى الداخل الأمريكى، أو حتى الانجرار لصراع عسكرى غير مباشر أو استخباراتى مع إيران بالتعاون مع إسرائيل، وهو ما قاد فى النهاية إلى سعى الإدارة الأمريكية للتهدئة المؤقتة. * باحث بالمركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية ينشر بالتعاون مع المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية