لم تكن "فريدة" تعلم أن أجمل اللحظات التي كانت تجمعها ب"أسامة" داخل راوند الباطنة بكلية طب وفي مدرجاتها ما هي إلا حلم كان قد أوشك على الانتهاء. تتفتح الأزهار وتخرج للنور وهي بكامل نشاطها وكأنها تقول للعالم "أنا هنا.. قادمة.. استعدوا وأفسحوا لي في أوساطكم مكانًا".. وهكذا يكون خريج كليات الطب حديث التخرج، فبعد سنين عجاف أقلها ست وأكثرها سبع سنين للطب البشري يخرج الطبيب وهو يحمل قدرًا لا بأس به من العلم ينوي كالأزهار أن يباهي به الجميع ويتبوأ مكانه الموعود وسط العامة ولكن الفرق أن الأزهار تولد متفتحة، والطبيب يولد وأوراقه قد شابها الذبول. وهنا يخرج أسامة وتشتبك يديه بأيدي فريدة عازمين على التوجه للبنك المركزي القابع بوسط البلد لصرف أول شيك من المكافأة الشهرية لطبيب الامتياز المقدرة من الحكومة، وهي 245.48 جنيه، وبالرغم من ضآلة المبلغ إلا أن أُنس اللمة بالحبيب ولذة أول مرتب قد تتخطى المبلغ لتحقق المبتغى من نيل الأجور وهو.. سعادة التعب !!. فيتفقان على الاحتفاظ بها كذكرى لجمع الحبيبين واستشهادًا لنسلهم على تقدير الحكومة لهم !! ويضعها في جيبه !! يتفرّق الحبيبان ويذهب كل منهما باكرًا لمكان العمل ومن داخل مستشفى (سيد جلال) بباب الشعرية يقف أسامة داخل الاستقبال، وتتجاوز نصاعة بياض البالطو الأبيض الذي يرتديه عفاء المهمة وثقلها ويُعلق المحاليل ويُركب (الكانيولا) ويعطي الحقن وبابتسامة يشوبها الإرهاق يخفف الألم ويتجاوب المرضى وينهره البعض وتسير الأمور. وبينما هو منهمك في عمله تتعالى أصوات شجار في الخارج، وللعالمين ببواطن الأمور أنه، وخصيصًا بعد الثورة، لا يمر يوم إلا ويحدث شجار بين الأهالي وأفراد الاستقبال، فلا يعطى أسامة لمثل هذه الأحداث الكثير من الاهتمام ويدخل شابان غارقان في دمائهما وبصحبة ذويهما وأهاليهما تتعالى الأصوات داخل حجرة الاستقبال ويسرع التمريض وأطباء الامتياز لبيان الحالة ومداوة الجرحى.. ولكن.. لا توجد محاليل كفاية.. انتهت كل أدوات الإسعاف بعد عناء يوم طويل.. ويخبرون أهل المصاب بضرورة توفير (حقن) من الخارج، فيهيج الأهالي، ويعتذر الأطباء.. تشتم الأهالي.. ويغضب الأطباء. يقرر أحدهم أن يرفع (مطواة قرن غزال) على النائب (السنيور) فيسرع أطباء الامتياز للتحجيز، ولكن "سبق السيف العزل" ويصاب أسامة.. ينزف.. يتذكر (فريدة).. لحظات الجمع.. وسنين الكلية.. يصبح الطبيب هو المريض.. ووو.. ويموت أسامة ولا يتبقى من ذكراه.. سوى 245.48 جميه ليتركها لنا، وكأنه يقول إن دمي في رقبتكم أنتم جموع الأطباء.. تركتم حقوقكم والآن تتركون حقي.. ألهتكم عيادتكم أيها (العيادنجية).. فضاعت قيمتكم وانتهى عصركم.. اسألوا أنفسكم هل جميع النهايات تكون سعيدة ؟! هل جميع الأطباء سينهلون من الطب والعمل الخاص الأموال التي تجعلهم مؤمنين؟!.. هل ستسعفك الحياة أن تعيش لترى يومًا حصاد تعبك ؟!.. أم تموت ك"أسامة" قبل أن يبدأ حياته!!.. هل ستعوّض وزارة الصحة أهل أسامة عن سنين عمره التي قضاها في كلية الطب؟! أم هل تخرج له معاشًا وهو الذي يتقاضى هذا الراتب الضئيل. هل أباطرة الطب الذين أفسدوا المهنة بجشعهم ورسموا صورة الوحش الذي يلتهم الأموال بداعي الطب في رؤوس المرضى، وضعوا أنفسهم مكان أسامة وقد يكون ابنًا لأحد منهم. نهاية.. إن ما أردت أن أوصّله لكم، وأعكف عليه أن أوضح للجميع أننا بشر نخطئ ونصيب.. منا الفقير ومنا الغني.. نحتاج لإعادة صياغة وننتظر من بلد الثورة التغير.. وأختتم بمقولة لأحد أساتذتي وهو الدكتور أحمد ناصر (مستشفى التحرير العام): إن الأطباء وقّعوا عقدًا غير مكتوب أو موثّق مع وزارة الصحة، ينص على أن تتركهم الوزارة دون رقيب أو حسيب يذهب من يشاء أو لا يذهب وبمقابل مادي ضعيف، شريطة أن يتركوهم ليتفرّغوا لعيادتهم الخاصة، وسُيرعلى هذا العقد أجيال وما زال مستمرًا.. هم صامتون وما زالوا). إمضاء: طبيب أسنان.