يمر المجتمع المصري بمرحلة انتقال من نظام الاقتصاد المخطط إلى اقتصاد السوق، وتتميز هذه المرحلة باحتدام الصراع بين قوى النظام القديم وقوى النظام الجديد، فضلا عن إعادة النظر في التشريعات القائمة، وصدور تشريعات جديدة مما يؤدى إلى العديد من الثغرات التي تساعد على انتشار الفساد، والذي قد يصل إلى حد النهب المنظم والمكثف للثروات العامة، كما هو الحال في مصر حاليا، حيث لا يمر يوم دون الإعلان عن قضية فساد كبرى وعدد من قضايا الفساد الصغرى. وقد انتشر الفساد في مصر في مجالات متعددة وأمتد إلى وحدات الإدارة المحلية. فلماذا انتشر الفساد في المحليات إلى هذه الدرجة؟ وما الإجراءات الواجب اتخاذها للحد من الفساد ومحاصرته في المحليات؟ أن مصر ليست الدولة الوحيدة التي تعانى فسادا بيروقراطيا وإداريا، وأن عملية التنمية السياسية لا بد لها أن تأخذ المنحى اللامركزى كتطبيق، ولا بد من توعية أفراد المجتمع بها، وأن مميزاتها تكاد تتناسب مع أطر وعلاج ومكافحة الفساد المحلى في مصر. وأن مسألة الشفافية والمساءلة واحترام القانون تحتاج إلى إعادة تصحيح وتوضيح وتوعية، وأن هذا المزاج مكتسب ونتاج سياق مجتمعي معين، وسيستغرق بعض الوقت (تغيير عقل وفؤاد)، أي منظومة القيم. أن مشكلة مكافحة الفساد متعلقة بالديمقراطية الحقة وإنفاذ القانون، وتنفيذ الأحكام والإطار الاجتماعي والاقتصادي (السياسات الاجتماعية والاقتصادية)، والحد الأدنى والحد الأقصى (العدالة الاجتماعية)، وأهمية التجديد الثقافي والتربوي القيم، سواء في الإسلام أو المسيحية ، ومفهوم النفس اللوامة (الضمير)، وأن القيم الدينية مهمة. أن فساد المحليات ليست قضية مستقلة بذاتها فهي ملف شائك يفتح جميع الملفات الأخرى ,فمهما حاولت الدولة النهوض الاقتصادي فإن فساد المحليات يقضي على كل شيء فهو يحمل بين طياته أحياء وشوارع ومجالس مدينة وقوات حماية مدنية أي كل مايتعلق بمحافظات مصر وليس محافظة بعينها .فالأمر لايتعلق بترميم وإنشاء ولا يتعلق برواج اقتصادي أو ركود فقط إنما يتعلق بأسر من أب و أم وأطفال مشردين في الشوارع ,فكيف لهذا الأب العامل أن يؤدي عمله ويعول أسرته ويلتزم بواجباته تجاه دولة لاتحقق له أبسط حق من حقوقه وهو سقف يآويه بإطمنان وليس بخوف وهلع !! كيف لشباب أن يروا مستقبل بلادهم ويساهموا فيه وهم ملوثو الأيدي والأوجه بتراب منازلهم المنهارة !! وترجع أسباب انتشار الفساد في المحليات إلى القانون الحالي للإدارة المحلية، والذي ينطوي علي بعض الثغرات التي من شأنها المساعدة علي انتشار الفساد، إضافة إلى تراجع سلطة المجالس الشعبية المحلية المنتخبة ورقابتها الفعالة علي أداء الأجهزة التنفيذية المحلية. كما أن غياب المعارضة والتعددية في المجالس الشعبية المحلية المنتخبة، ساعد علي تسهيل انتشار الفساد دون رقابة أو محاسبة من هذه المجالس، وكذلك الازدواجية في الإشراف علي أجهزة الإدارة المحلية بين السلطة المركزية والقيادات المحلية وتعد الإدارات الهندسية بالوحدات المحلية، أهم المجالات التي تعكس فساد المحليات علي نطاق واسع، حيث تمنح تلك الإدارة المواطنين تراخيص البناء وقرارات الهدم، ويحصل بعض مهندسيها علي رشاوى ضخمة نظير ذلك، أن نسبة الرخص المخالفة للبناء في مدينة نصر وصلت إلي 98% بينما وصلت في مصر الجديدة إلي 90% بينما بلغت نسبة المخالفات 97% في محافظة الجيزة كذلك وجود 52 ألف مخالفة بالإدارات الهندسية بالإحياء والمدن والمحافظات أمام النيابة العامة والإدارية، كما وصلت ثروات 203 مهندسين من الإدارات الهندسية بالمحليات من المقبوض عليهم إلي 2.3 مليار جنيه من واقع الحصر الرسمي لثرواتهم في شكل أموال سائلة أو عقارات مبنية أو أراض ومجوهرات. حيث يسفر عن هذا الفساد المحلي تدهور التمويل العام والخدمات العامة، حيث يتم توجيه التمويل العام من جانب المسئولين الفاسدين لخدمة مصالحهم، كما يحصلون علي رشاوى من الأموال المحصلة في شكل ضرائب، ولمواجهة هذا التراجع في التمويل المحلي تقوم الإدارات المحلية بفرض مزيد من الرسوم والغرامات مما يزيد من الأعباء المفروضة على المواطنين المحليين. تبين من خلال بحث أسباب انهيار العقارات، أن ارتفاع معدلات الفساد داخل المحليات، من أهم أسباب تفاقم مشكلة انهيار العقارات في مصر، لأن معظمها تكون حديثة البناء وليست قديمة، وأنه أدى إلي صعوبة حصول المواطن على تراخيص البناء من خلال القنوات الشرعية. ويضاف إلى ذلك ضعف أجور مهندسي الأحياء، والذي فتح الباب أمام الرشوة والمساومات وهجرة الكفاءات الهندسية من العمل في المحليات هروب من المسؤولية الهندسية، والتي تجعلهم دائم و عرضة للمسائلة القانونية، كما أن تضارب القوانين والتشريعات الخاصة بالبناء وتعددها، يسهل اختراقها والالتفاف حولها واستغلال ثغراتها. بلغ حجم الفساد في المحليات طبقا لتقارير الجهاز المركزي للمحاسبات 390 مليون جنيه في عام واحد، وبحسب الجهاز حصل الفاسدون في المحليات على مليار جنيه. حجم الأموال التي يتم إهدارها في قطاع الوحدات المحلية بلغ 431 مليون جنيه و419 ألفا موزعة بين القطاعات المختلفة. ويقدر حجم الرشوة المدفوعة بالمحليات بمليار جنيه سنوياً بمعدل 3 ملايين جنيه يومياً ، وتشير التقارير إلى أن رخصة البناء تبدأ “تسعيرتها” بخمسة آلاف جنيه وتصل إلى 60 ألف جنيه، فيما أصبح هناك ما يسمى “عمولات الكبار” وهى أكثر من 500 مليون جنيه سنوياً. إن ارتفاع نسبة مخالفات البناء في السنوات الأخيرة بشكل غير مسبوق، إلى أن 90% من مباني مصر مخالفة بسبب فساد المحليات ويتركز معظمها في القاهرة. ويلجأ العديد من المقاولين وأصحاب الأبراج السكنية، لاستغلال غياب الرقابة على العقارات، ويقومون بالتعاون مع رئاسة الأحياء على أعمال حفر للأبراج الجديدة، دون وضع أي حسابات للعقارات القديمة المتواجدة بجوارها، ويقومون أيضا بطمأنة الأهالي بأنهم وضعوا الأساسات اللازمة التي تحمي عقاراتهم من الانهيار، ثم ما يلبث أن يجد المواطنين أنفسهم مشردون في الشوارع بعد انهيار منازلهم، مثل ما حدث في عقار منطقة حسن محمد بفيصل، عندما حفر أحد أصحاب العقارات أساس لعقار جديد، وقام الأهالي بالتصدي له، إلا أنه على الرغم من قيام شريف إسماعيل بعرض الموعد المحدد لانتخابات المحليات أمام مجلس النواب مؤخرا, والتي تشمل توصيات لمكافحة الفساد بالمحليات وتفعيل دور منظمات المجتمع المدني وتوفير التمويل اللازم للمحليات، أرى أن عدم تعديل قانون الإدارة المحلية رقم 43 لسنة 79 هو السبب الرئيسي، اى إننا نعيش على أوضاع ثابتة منذ 36 عاماً، وبالتالي هذا جزء من الأزمة، بخلاف وجود أشخاص غير جديرين بالعمل في المحليات في مناصب ومراكز غير مؤهلين لها، ما يسهم بدرجة كبيرة في تلك المشكلة. إلا أن أغلب الأحزاب والقوى السياسية رأت أن الإعلان عن موعد الانتخابات دون سن قانون جديد للإدارة المحلية، أو طرحه للحوار المجتمعي يؤكد عدم وجود نية من الحكومة لإجراء الانتخابات في الموعد الذي أعلنت عنه. الرقابة علي الإدارة والماليات مهمة جدا، وهي تؤدي إلي نتائج جيدة في تحسين الأمور الفنية وأي مخالفة كبيرة أو صغيرة يتخذ ضدها إجراء حاسم، كما أن في الفترة الماضية تم استبعاد مسئولين سواء في المحافظات أو الوزارات من مواقعهم لوجود مخالفات ضدهم. المحليات دوماً تلاحقها الشبهات والاتهامات فكيف ستكون الحرب علي هذا الفساد؟