فى خطوة هى الأولى منذ جائحة كورونا، التى عصفت باقتصادات العالم - وتحديدًا منذ 2020- بدأ الفيدرالى الأمريكى فى خطة تخفيف التشديد النقدى، والتى تبناها لخمس سنوات بخفضه مستويات للفائدة المرجعية بمعدل 0.5٪ (50 نقطة أساس)، تمهيدًا لتطبيق تخفيضين آخرين قبل نهاية العام الجارى وأربعة تخفيضات متوقعة فى عام 2024، مما سيكون له أثر واضح على مشهد الدين العالمى، وخاصة فى الدول النامية متوسطة ومنخفضة الدخل. ماذا يعنى بدء تيسير السياسة النقدية الأمريكية على معضلة الدين فى الدول النامية؟ فى خضم التوترات العالمية والإقليمية وتبعاتها على اقتصادات الدول المتاخمة؛ ومع حذو البنوك المركزية العالمية حذو الفيدرالى الأمريكى، فيما يتعلق بالتشديد النقدى منذ العام 2020؛ كان الاقتراض من المؤسسات المالية العالمية وحكومات الدول أمرًا ضروريًا لمواجهة التحديات الداخلية للدول، وخاصة الدول النامية متوسطة ومنخفضة الدخل، لسد الطلب المحلى وإنجاز المشروعات المهمة وذات الأولوية وتوفير السيولة اللازمة لتوفير السلع والخدمات وسط ارتفاع أسعار غير مسبوق تسبب فى موجة تضخمية عالمية لم نشهد مثالًا لها منذ أكثر من أربعة عقود، إلى جانب توفير السيولة من العملة الصعبة لسداد الدين وفوائده، وهو ما فرض قيودا وضغوطا مالية على الدول، خاصة مع ارتفاع تكلفة خدمات الدين نتيجة ارتفاع مستويات الفائدة من ناحية وارتفاع سعر الدولار من ناحية أخرى. وفقا لآخر تقارير البنك الدولى الراصد لأرقام الدين العالمى خلال العام 2022، والصادر بنهاية 2023؛ فقد أنفقت الدول النامية 443.5 مليار لخدمة الديون وضماناتها، مع ارتفاع مدفوعات الدين بنسبة 5٪ فى جميع الدول النامية التى دفعت 88.9 مليار دولار كتكاليف لخدمة الدين من قبل 75 دولة مؤهلة للاقتراض من مؤسسة التنمية الدولية التابعة للبنك الدولى، والتى توفر تمويلات للاقتصادات الأشد فقرا على مستوى العالم. استنادا للتقرير؛ تضاعفت مدفوعات الفوائد لهذه الدول أربع مرات خلال العقد الماضى لتصل إلى أعلى مستوى على الإطلاق لتصل إلى 23.6 مليار دولار عن 2022، متوقعا أن تقفز تكاليف خدمة الدين بشكل كبير بين عامى 2023 و2024 بحوالى 39٪. بنى التقرير توقعاته على أساس استمرار دورة التشديد النقدى، سواء بزيادة أسعار الفائدة المرجعية أو تثبيتها وليس خفضها؛ ما يعنى أن هذه التقديرات سوف تتغير لاتجاه نزولى مع تيسير التشديد الذى بدأه الفيدرالى فى سبتمبر. ولفت التقرير إلى أن ارتفاع كلفة الديون أدى إلى 18 حالة تخلف عن السداد فى الفترة من 2020 حتى 2022 فى 10 دول نامية، وهو العدد الأكبر الذى يرصده البنك الدولى خلال العقدين الماضيين. جدير بالذكر أن أرقام البنك الدولى المحدثة عن الدين العالمى من المنتظر الإعلان عنها ديسمبر المقبل بالنسبة لمستويات الديون فى 2023. مستويات الدين فى مصر وفقا لبيانات صندوق النقد الدولى؛ فقد وصل معدل الدين العام فى العام المالى 2022 /2023 (يوليو 2022 – يونيو 2023) فى مصر لمستوى 98٪ من إجمالى الناتج المحلى الإجمالى، وهو المستوى الذى تراجع بعد ذلك لمستوى 89٪ بنهاية العام المالى المنتهى فى يونيو الماضى (2023 /2024)، مع وضع الحكومة لخطة خفض الدين لمستويات دون 80٪ بحلول يونيو 2027. وأدى ارتفاع تكلفة الاقتراض عالميا وقوة الدولار الأمريكى إلى زيادة الدين وأعبائه فى مصر منذ العام المالى 2020 /2021، تكشف بيانات البنك المركزى تسارع مستويات الدين الخارجى لمصر - على سبيل المثال - من 137.8 مليار بنهاية العام المالى 2020 /2021 إلى 155.7 مليار جنيه بنهاية السنة المالية 2021 /2022 الذى قفز إلى 164.7 مليار جنيه بنهاية العام المالى الماضى 2022 /2023 والذى تسارع إلى ما يجاوز 168 مليار جنيه فى الربع الثانى من العام المالى 2023 /2024، أى بنهاية العام 2023، والذى انخفض بعد ذلك لمستوى 160 مليار دولار فى الربع الثالث، مع توقيع اتفاق الاستثمار الأجنبى المباشر فى منطقة رأس الحكمة الساحلية مع الجانب الإماراتى، والذى حصلت مصر بموجبه على 24 مليار دولار كسيولة دولارية، فيما تم تحويل 5 مليارات دولار من أصل 11 مليار دولار قيمة الودائع الإماراتية لدى البنك المركزى المصرى للاستثمار المحلى فى مصر، مع تحويل المتبقى من هذه الودائع كل فى آجال استحقاقه. جدير بالذكر أن وزارة المالية ستحصل على ما يعادل 12 مليار دولار بالجنيه المصرى للتعامل مع مستويات الدين المرتفعة، وصولا للمستهدف السابق ذكره تماشيا مع تعهدات مصر لصندوق النقد الدولى فى إطار اتفاق التسهيل الائتمانى الممتد الحالى بقيمة 8 مليارات دولار، والذى ينتهى العمل به فى سبتمبر 2026، وكذلك اتساقا مع استراتيجية وزارة المالية المستهدفة سرعة خفض معدل دين أجهزة الموازنة العامة للدولة لأقل من 80٪ من الناتج المحلى بحلول يونيو 2027. وقد حدد مجلس الوزراء سقف دين أجهزة الموازنة العامة للدولة فى السنة المالية الحالية 2024 /2025، حيث بدأ العمل بها ببداية يوليو الماضى بمبلغ 15.1 تريليون جنيه، وبنسبة 88.2٪ من الناتج المحلى، على ألا يتم تجاوز هذا السقف إلا فى الحتميات القومية وحالات الضرورة، بموافقة رئيس الجمهورية، ومجلس الوزراء، ومجلس النواب. تهدف الاستراتيجية أيضا إلى تحسين إدارة الدين وتقليل المخاطر المتعلقة بإعادة التمويل من خلال خفض عجز الموازنة، عبر تنمية موارد الدولة، مع ترشيد الإنفاق والحفاظ على تحقيق فائض أولى متزايد، وتسجيل معدلات نمو مرتفعة وتوجيه نصف إيرادات برنامج الطروحات الحكومية لخفض مديونية الحكومة وأعباء خدمتها، بشكل مباشر، والنزول بمعدلات زيادة مدفوعات الفوائد من خلال اتباع سياسة تنويع مصادر التمويل بين الأدوات والأسواق الداخلية والخارجية، إضافة إلى خفض الاحتياجات التمويلية التى تتكون من العجز، وإطالة عمر الدين بعد تحسن أسعار الفائدة، ووضع سقف للضمانات التى تصدرها وزارة المالية، ومراقبة حجم الضمانات السيادية الصادرة، والضمانات المطلوبة لما تشكله من التزامات محتملة على الموازنة العامة للدولة، وكذلك العمل على مراجعة كافة الضمانات المطلوبة والتفاوض على شروطها مع العمل على خفض رصيد الضمانات السيادية للناتج المحلى الإجمالى، ابتداءً من العام المالى المقبل. يذكر أن مصر ملتزمة باستغلال 50٪ من عوائد برنامج الطروحات الحكومية - والذى أعلن رئيس الوزراء مؤخرا ترتيب أولوياته، مع إعلان استئنافه قريبا للمساهمة فى مستهدف خفض سقف الدين. رغم أن الحكومة فى برنامجها الحالى الممتد للعام المالى 2026 /2027 انتهجت عدم الاعتماد على الاقتراض لتمويل احتياجاتها التمويلية والمشروعات، مع توصية مجلس النواب باللجوء للاقتراض فى أضيق الحدود؛ إلا أن انخفاض مستويات الفائدة عالميا سوف يساعد على خفض الاقتراض لدولة نامية مثل مصر إذا ما لجأت للاقتراض لتنفيذ أولويات البرنامج، وبالتالى انخفاض أعبائه، ما يخفف من الضغوط المالية على اقتصاد هو الثانى من حيث الحجم إفريقيا خلال 2024 بعد جنوب إفريقيا، بناتج إجمالى محلى متوقع عند 348 مليار دولار بنهاية العام- وفق تقديرات صندوق النقد الدولى. كانت مديرة بعثة صندوق النقد الدولى لمصر الخاصة ببرنامج التسهيل الائتمانى القائم حاليا قد أكدت مع انتهاء المراجعة الثالثة من البرنامج بنجاح أنه رغم تطبيق مصر لمرحلة جديدة من سياسة التسعير العادل للمحروقات مع زيادة أسعار الخدمات فلن يرتفع التضخم للمستويات التى شهدها خلال العامين الماضيين وسيبدأ مسارا هبوطيا، وهو ما أكده رئيس الوزراء المصرى بأن مستهدف الحكومة لمستوى التضخم هو 10٪ فى العام المقبل 2025، مقارنة بمستويات تتخطى 25٪ حاليا. خفض أسعار الفائدة عالميا مع الانخفاض التدريجى المتوقع للتضخم فى مصر قد يدفع البنك المركزى لتخفيف التشديد فى سياسته النقدية التى بدأها فى مارس 2022 إبان بدء مفاوضاته مع صندوق النقد الدولى للحصول على برنامح التسهيل الائتمانى الحالى، وأيضا بهدف احتواء الموجة التضخمية العالية التى تزامنت مع الموجة التضخمية العالمية وتطبيق الموجة الثالثة حينها من التسعير العادل للعملة المحلية، فضلا عن نقص المعروض من العديد من السلع، نظرا لاضطراب سلاسل الإمداد العالمية التى كانت أحد أبرز تبعات الحرب الروسية الأوكرانية. هذا التوجه المتوقع من المنتظر أن ينعكس إيجابا على القطاع الخاص فى مصر، خاصة فيما يتعلق بتراجع تكلفة الاقتراض المتوقع، والذى سينعش القطاع الخاص، خاصة القطاع الصناعى الذى عانى كثيرا من ارتفاع معدلات الفائدة، وهو ما يدعم ما عكسته قراءة مؤشر مديرى المشتريات لشهر أغسطس الماضى، والذى تخطى المستوى المحايد لأول مرة خلال سنوات، مع تحسن وضع القطاع الخاص غير المنتج للنفط منذ نوفمبر 2020. هذه التوجهات المتوقعة سوف تسهم بما لا يدع مجالا للشك فى تحقيق مستهدفات برنامج الحكومة وتحقيق تعهدات مصر أمام صندوق النقد الدولى، والذى سينعكس فى نهاية المطاف على تحقيق معدلات نمو أعلى وخلق مزيد من فرص العمل، مع تحقيق استقرار السوق وجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية وتحفيز وتشجيع الاستثمارات المحلية على حد سواء. * باحثة بالمركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية ينشر بالتعاون مع المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية