هى هموم إنسان مصرى أصيل أحب مصر من كل عقله وقلبه ووجدانه. ولم يكن يومًا من الأيام من رجال السياسة بالمعنى الضيق - أى لم يكن أبدًا فى حزب سياسى مؤيد أو معارض ولكنه كان رجل قانون ورجل فن. كان رجل قانون ذا قامة عالية فى عالم القانون سواء على مستوى مصر أو على مستوى الوطن العربى أو حتى المستوى الدولى. كان محاضرًا فى أكاديمية القانون الدولى بلاهاى، التى لم يحاضر فيها عربى - فيما أعلم - إلا بطرس غالى - الكبير طبعًا - وفؤاد رياض الذى صار بعد ذلك قاضيًا دوليًا فى المحكمة الجنائية الدولية التى حاكمت بعض المجرمين الدوليين، وأصدرت ضدهم أحكامًا رادعة. وقد انعقدت تلك المحكمة فى مبنى محكمة العدل الدولية فى لاهاى فى قصر السلام، الذى تحتل أكاديمية القانون الدولى جزءًا منها والتى شرفت يومًا من الأيام - أيام الشباب العابر - بأن أقضى فيها ساعات ثمينة من العمر أيام تحضير رسالة الدكتوراه. هذا هو الإنسان ذو القلب الكبير الأستاذ الدكتور فؤاد عبدالمنعم رياض صاحب هذه الهموم التى هى فى الوقت نفسه هموم مصر وهموم كل مهتم بها. ويبدأ فؤاد رياض همومه بوقفة مقارنة بين ما كانت عليه مصر فى بداية الألفية الثانية -1900- وما آلت إليه فى ختام هذه الألفية -2000- ويحس بمرارة نحسها معه لأن مصر كانت فى مطلع هذه الألفية منذ أكثر من مائة عام واحدة من الدول التى كانت مركزًا لإشعاع علمى وحضارى وثقافى يرسل النور لكثير من دول العالم وكانت قبلة للطلاب والمثقفين العرب، ويقارن «فؤاد» ماكنا عليه بما نحن عليه الآن، فيقول: «لا مفر من الاعتراف بأن الجماعة المصرية تعانى من ظاهرة عامة هى غيبة الوعى العام وفقدان الرؤية الشاملة للحاضر والمستقبل على السواء». ويا بؤس حال أمة تفقد الرؤية للحاضر والمستقبل جميعًا. إنها تحكم على نفسها بالموات الذى هو مرادف لانعدام الوعى وغيبته. ويرى فؤاد رياض أن الخروج من هذه الحال التعيسة لن يكون إلا باستعادة الشعور العام بالمسؤولية والإحساس بهموم الوطن وتعميق الانتماء إليه. إن غياب الإحساس بالمسؤولية نحو الوطن هو أخطر ما يهدد الأوطان فى وجودها نفسه، لأنه يؤدى إلى تفكك لحمة الوطن وتحوله من جماعة متراصة إلى مجموعات من الأفراد الغرباء عن بعض والذين لا يحسون بجامع يجمعهم ولا ولاء يوحد بينهم، وهنا تصبح القابلية للتفتت والاستجابة لدواعى الفتنة جاهزة لا تحتاج لمن يحركها. ولعل هذا هو ما نرى مظاهره فى هذه الأيام العجاف. إن الشعوب والدول لا تتآكل وتنهار ويخبو بريقها لأسباب خارجية وإنما تنهار بسبب «العفن الذى ينخر داخل جذورها»، على حد تعبيره، وتنهار لأن المواطن يفقد الإحساس بوجود «الدولة» التى تهتم به وترعى شؤونه وتوفر له ضروريات حياته. ويرى فؤاد رياض أن أول خطوة فى طريق النجاة تكمن فى توفير القناعة لدى المواطنين بوجود حقيقى لدولة تكفل لهم الأمان مما هو محيط بهم وتزيل مخاوفهم وتلبى مطالبهم المشروعة. والدولة لا تكون دولة بالمفهوم العلمى الحديث إلا إذا آمنت بأن سيادة القانون هى أساس الحكم فى الدولة. اقرأ عبارته الواضحة: «لقد آن الأوان، ونحن على مشارف حقبة جديدة يسودها الوعى بضرورة الإصلاح، فكان الأساس الذى تقدمت به الإنسانية وحال دون ارتدادها لشريعة الغاب. إن عودة الإحساس والقناعة بسيادة القانون وخضوع الجميع لأحكامه دون تفرقة والالتزام بها لهو أنجح السبل لإعادة روح الانتماء إلى نفس كل مصرى». والإيمان بسيادة القانون يبنى عليه أن تكون الدولة دولة مؤسسات لا دولة أفراد. ونبنى عليه أيضًا مبدأ المواطنة والمساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين جميعًا بغير تفرقة بسبب الجنس أو الدين أو المعتقد وكل هذا هو الطريق المؤدى إلى احترام حقوق الإنسان بحكم كونه إنسانًا والدفاع عن هذه الحقوق فى مواجهة أى محاولة للنيل منها سواء كان ذلك من قبل سلطات الدولة أو من قبل الأفراد فى مواجهة بعضهم البعض. ويذهب الأستاذ الكبير فؤاد رياض إلى أن أول خطوة فى سبيل الخروج من النفق المظلم تكمن فى نهضة حقيقية للتعليم، بحيث يواكب روح العصر، سواء من حيث الأدوات العلمية أو من حيث الفكر المستشرف للمستقبل. كما يكمن فى منع أى فكر ملوث. ويعنى بذلك من غير شك ذلك التفكير السلفى المتخلف، الذى لايرى فى الدين غير المظاهر والقشور، والذى يؤدى عاجلاً أو آجلاً لتشتيت شمل الجماعة الوطنية وغرس بذور الفتنة. والتعليم لا يكون بالتلقين، فما أبعد ذلك عن معنى التعليم. التعليم فى الأساس هو تنمية المقدرة على التفكير والإبداع وهو خلق المقدرة على إثارة التساؤلات ومحاولة الإجابة عنها، وهو تعليم الإنسان كيفية الحوار والأخذ والعطاء والابتعاد عن المطلقات وعن نفى الآخر لأن ذلك كله دليل تخلف عقلى ودليل جمود. وهموم فؤاد رياض فى كتابه الجميل الممتع لا تقتصر على القضايا التى أشرت إليها فحسب، ولكنها تنبه إلى قضية التفاوت الطبقى داخل المجتمع المصرى، وما يؤدى إليه من وجود فئتين أو شريحتين تقعان على طرفى نقيض. شريحة كبرى تفتقد مقومات الحياة الآدمية الأساسية، إذ تعيش بغير تعليم، أو رعاية صحية تحت خط الفقر. وتوجد شريحة صغيرة «بل متناهية فى الصغر ذات ثراء فاحش، وتمثل استفزازًا سافرًا للشريحة الأولى»، ويزيد من خطورة هذه الظاهرة الضمور المستمر للطبقة الوسطى. وليست هموم فؤاد رياض كلها همومًا داخلية، بل إن المشكلة الفلسطينية والغطرسة الإسرائيلية تستحوذان على جزء كبير من اهتمامه وهمومه. إن ما وصلت إليه أحوال الشعب الفلسطينى فى ظل الاحتلال الإسرائيلى والحصار الذى يفرضه على قطاع غزة والتقسيم الذى يدمر به البنية الأساسية ومبدأ التواصل بين أجزاء الإقليم الواحد هى كلها تصرفات مخالفة لأبسط مبادئ القانون الدولى، بل إنها تصل فى غطرستها إلى حد اعتبارها من وجهة نظر فؤاد رياض - وهى وجهة نظر علمية موضوعية - من جرائم الإبادة الجماعية لجزء من الجنس البشرى، وهى جريمة تستحق إسرائيل من أجلها أن تمثل أمام المحكمة الجنائية الدولية، لو أن المجتمع الدولى يعرف معنى العدالة. إن إسرائيل على حد تعبير الدكتور فؤاد رياض تسخر من المجتمع الدولى وتستخف به بل وتبصق على المنظمة الدولية التى أنشأتها بقرارها عام 1947، وتزدرى محكمة العدل الدولية وكل قيم الإنسانية المتحضرة. وهذه الغطرسة الإسرائيلية لن تستمر إلى الأبد. سيتحرك ضمير الإنسانية. وسيتحرك الشعب الفلسطينى. وستدرك الأمة العربية الخطر الذى يتهددها نتيجة الغطرسة الإسرائيلية، وعندئذ لابد أن تقع الواقعة. قد يطول الأمد ولكنه آت لا ريب فيه. والله المستعان.