فتح صمود الذهب فى ظل موجة الانخفاض الحاد– أو الانهيار- فى أسواق المال العالمية والذى طال بصفة خاصة الولاياتالمتحدة واليابان وطال بصفة أخص داخل هاتين الدولتين أسهم شركات التكنولوجيا المنتفخة سعريا، فتح شهية جمهور واسع للحوار حول مخزن القيمة الأكثر أمانا وهو الذهب وهل يستطيع أن يحافظ على هذه المكانة فى ظل الاضطرابات الجيوستراتيجية والتقلبات الاقتصادية وغموض التوقعات بشان اتجاهات الفيدرالى الأمريكى إزاء سعر الفائدة وإزاء وضع الاقتصاد الأمريكى والتناحرات السياسية هناك، وإلى أى مدى يتعامل الذهب مع بدء التحول إلى بناء أصول مشفرة رسمية أى برعاية البنوك المركزية مما قد ينافس الذهب عند البنوك المركزية ذاتها فى تركيبة احتياطياتها وعند جيل الشباب فى المدى الأبعد الذى يهمل تاريخ ورمزية الذهب وينحاز إلى الأصول المشفرة الرسمية والمنظمة، وأخيرا ما أهم ما يمكن أن ننصح به صغار المدخرين والمستثمرين؟. لقد سجل سعر أوقية الذهب صباح الثلاثاء السادس من أغسطس الجارى 2414 دولارا للأوقية وكان هذا السعر نفسه يوم 23 أغسطس 2019 نحو 1498 دولارا، ووصل فى 1 يناير 2022 هو 1827 دولارا، ويفسر المكسب المتحقق لكثيرين لماذا دخلت ملايين من البشر فى كل بلد ساحة متابعة وتحليل أسواق الذهب منذ ذلك بداية موجة الصعود الجديدة القوية للذهب فى مطلع 2022 بعد موجة سابقة فى 2020 زمن كورونا ويستطيع أى مراقب رصد عدد قراءات أى خبر مرتبط بالذهب مقارنة بقراءات أخبار اللحوم والفراخ والسكر والحديد على المواقع الإلكترونية الكبيرة وحتى الصغيرة ليتحقق من التوسع الذى حصل فى عدد متابعى أخبار الذهب بل ومحلليه الذين أصبحت صفحاتهم على السوشيال ميديا بالملايين كأنهم يريدون أن يصلوا إلى معدل صفحة لكل أوقية ذهب من إجمالى نحو 5000 طن استهلاك مرصود على مدار العام (استهلاك 2023). وقد تكفلت الاضطرابات الأخيرة فى الاقتصاد العالمى والأسهم وأسعار الفائدة والسلع بتحفيز غريزة اللجوء إلى ملاذ الذهب أخذا فى الاعتبار أن سعر الذهب صمد فى الساعات الأولى، لانهيار البورصات الذى حدث يومى الخميس والجمعة الماضيين ولكن حين أكملت الموجة الهبوطية عملها ربما بتدابير غامضة قد يكون المراد منها قطع تردد الفيدرالى الأمريكيى ودفعه إلى بدء خفض الفائدة فى اجتماعه المرتقب فى سبتمبر القادم، والمهم أن الذهب تراجع بأكثر من 3٪ ثم عاد ليقلص التراجع ويغلق الاثنين على سالب نحو 2٪ ثم حقق قدرا من الصعود الثلاثاء ووفق كل التوقعات الموضوعية بعيدا عن أى تحيزات فإن الذهب مؤهل لمواصلة القفزة الكبرى التى وصلها حاليا. إلا إذا وقع ركود حقيقى فى الاقتصاد الأمريكى بمعنى تحقيق نمو سالب لربعى عام متتاليين وهو الأمر الذى يبدو بعيدا وفق قراءات اقتصاديين أمريكيين كبار أنفسهم قالوا إن النمو الأمريكى (سجل 2.8 ٪ فى آخر ربع) أدهشهم وإن الاقتصاد أحسن حالا مما يظنه الجمهور العام فى أمريكا غير راض لأسباب متعددة. إلى ذلك فإن الذين استنتجوا أن الاقتصاد الأمريكى بصدد الدخول فى تباطؤ أو ركود من بيانات سوق العمل غير المواتية كانوا متسرعين أو متعسفين- أو سيئى النية - وقد عاد كثيرون منهم عما استنتجوه كما يبين من التحليلات على موقع بلومبرج الثلاثاء. وبالتالى فإن الذهب سيظل يرتفع ولكن بوتيرة أقل وقد يأخذ دفعة قوية نسبيا عندما تبدأ موجة تخفيف السياسة النقدية لأنه مفهوم تاريخيا أن خفض الفائدة يدفع كتل كبيرة من السيولة إلى سوق المال بحثا عن عائد أفضل كما أنه يقلل التكاليف على الشركات التى تقترض وبالتالى يزيد من أرباحها ويرفع أسهمها علاوة على أن خفض الفائدة يشجع الاستثمار الجديد والتوسع ويزيد استهلاك السلع والخدمات وعمليات شراء المساكن عبر التمويل العقارى أى ينشط الطلب وهذا أيضا يخدم الشركات وأسواق المال ويخدم الذهب كذلك لأن الذهب ينتعش عادة فى ظل النمو القوى ويجذب جانبا من السيولة الهاربة من أدوات العائد الثابت ويتفوق فى الأجواء الطبيعية على عوائد السندات. وهناك عنصر لا يلتفت إليه المحللون سيكون له تأثير قوى على الذهب فى المرحلة المقبلة وهو ما يمكن أن نسميه شهوة الاقتراب من القمة التاريخية (بلغها مرة فى ظل كورونا) فالذهب يبدو فى هذه اللحظات كمن يصعد جبلا ولم يبق أمامه إلا أمتارا قليلة ليبلغ القمة وبالتالى سيعافر للوصول إليها شأن أى متسابق ممن تحفزهم الأمتار الأخيرة حتى لو كانت طاقتهم كلها قد استنفدت، بعد ذلك قد يعود الذهب إلى معدلات أداء هادئة صعودا وهبوطا وقد يأخذ منحنى نزوليا قويا لأن الارتفاعات الراهنة أيضا متضخمة نسبيا أو محملة بأثر عوامل عابرة مثل الكوراث والحروب. برز فى التجربة الأخيرة بقوة كون الذهب فكرة ورمزا أكثر منه سلعة... فهو كما يقول العامة لا يؤكل ولا يشرب ولا يكسى، وقيمته الاستعمالية كسلعة محدودة للغاية حاليا ومحصورة فى دخوله فى بعض الصناعات أو العلاجات. فى الماضى كان استعماله الأوسع فيما يرسخ الخلود أى فى صنع تماثيل الملوك والآلهة وبعض زينة الملكات، وانتفى هذا الوضع، لكن «الفكرة/ الرمز» استمرت بحكم وفاق عالمى من الغنى والفقير، على أن هذا المعدن المقاوم لمعظم العوامل الفيزيائية والكيمائية وبالتبعية مقاوم فعال للزمن وللفناء، يستحق أن يكون ملاذنا حتى فى زمن الشدة أو الوقت الصعب اقتصاديا. فى المقابل بدأت تظهر كتابات ترى أنه قد يأتى وقت بعيد نسبيا يقل فيه الإجماع العالمى على قيمة هذه السلعة الرمز وعلى قدرتها على الجلوس على كرسى الخلود الأرضى لصالح أصول رقمية ذات جودة ولها مرجعية ومراقبة أو لها سلطة تنظيمية قوية فقد تكون هى فى أعين الأجيال الجديدة ذهب العصر المقبل وبداية «خلود» من نوع آخر. تتطلب الظروف الراهنة من المستثمر الصغير أو المدخر أن يكون حذرا وأن يدخل السوق بماله المدخر أو السائل وليس عبر قروض أو تمويل لأن العوائد لن تستمر بنفس القوة وعليه أيضا أن تكون له مرجعيته الخاصة فى معرفة أوضاع سوق الذهب ومن ذلك المعيار الفلاحى المصرى الذى يقول: كم جراما من الذهب تشترى قيراطا من الأرض؟ وإذا حدث أن قلت كمية الجرامات فمعنى ذلك أن الذهب أقوى وأقدر والعكس. وقد يريد المدخر أو المستثمر الصغير أن يتحول «من نفسه» إلى أخذ مخاطرة أملا فى مكاسب أعلى وفى هذه الحالة فالنصيحة هى اللجوء إلى أكثر أدوات المخاطرة بساطة وأقلها تكلفة على الأقل إلى أن يتعلم السباحة فى مياه أعمق، ومن ذلك شراء وثائق صناديق الاستثمار فى الذهب، وأن يجرب حظه بمبلغ بسيط فى شراء بالهامش لأسهم شركات تنتج الذهب فإذا خسر فالخسارة محدودة أو يخطو خطوة أوسع فيثقف نفسه ويبنى مركزا على الفوركس بمبلغ قليل فيشترى ذهبا ب100 دولار مثلا يدفع منهم 3 دولارات فقط، وإذا خسر ستكون خسارته بسيطة مقابل ما تعلمه وينصح أيضا بأن يأخذ المشترى الصغير فى الاعتبار أن يستقر فى السوق لأشهر طويلة مناسبة قبل أن يفكر فى البيع. وفى النهاية سيظل الذهب يمضى وكأنه يسير فى طريق متفرد يشبه صفاته الفيزيائية والكيميائية المتفردة إلا إذا حدث ركود كما أشرنا فسيكون ظهور علاماته هو أول نقاط انعكاس دوره صعود الذهب.