حدثتنا جريدة «لوموند» الفرنسية عن أن اجتماعات وزراء خارجية دول الاتحاد من أجل المتوسط الأخيرة دشنت إسرائيل كإحدى الدول (القائدة) فى حوض البحر المتوسط. وأصبحت باعتراف الدول العربية المشاطئة للبحر المتوسط جنوباً أميناً عاماً (مساعداً) للاتحاد، ورفضت قبول مبادرة السلام العربية، وإنما أخذت بها علماً فقط! أما صحفنا المصرية (القومية) فلقد حدثتنا عن شىء آخر، فإسرائيل من وجهة نظرها لم تحصل على شىء (ذى بال) وحسبها أنها أصبحت أميناً عاماً (مساعداً) من بين خمسة أمناء مساعدين، ولقد وافقت على مبادرة السلام العربية. الحدث واحد، لكن المعالجة لأخباره متباينة، وهى تعكس توجهاً فى الميديا العربية بشكل عام، فالصحافة الفرنسية والأجنبية (عموماً) تتحدث عن الظواهر والأحداث كما هى (بالفعل)، بينما تتحدث صحفنا العربية ليس عما هو كائن أو واقع بالفعل، وإنما عما تتمنى وتود أن يكون! والفارق بين المعنيين والمعالجتين أشبه بالفارق بين السماء والأرض. على أى حال لقد خرجت إسرائيل من مشروع الاتحاد من أجل المتوسط منتصرة انتصاراً مذهلاً.. وإذا كنتم فى شك مما أقول.. فإليكم هذه الواقعة: حدثنا الدكتور عصمت عبدالمجيد، الأمين العام السابق للجامعة العربية، أطال الله فى عمره، فقال: بطريق المصادفة فى إحدى صالات قاعة اليونسكو فى باريس، طرح علىّ شيمون بيريز، الذى كان وزيراً لخارجية إسرائيل فى ذلك الوقت، سؤالاً يقول فيه: متى ستقبلون إسرائيل عضواً فى جامعة الدول العربية؟ ويُعلق الدكتور عصمت عبدالمجيد على ذلك بقوله: كان سؤالاً مباغتاً، لكننى دون تفكير أجبته، بينما كنت أسير فى طريقى دون أن أتوقف: عندما تتكلم إسرائيل اللغة العربية.. وبدا لى أن شيمون بيريز ابتسم فى مرارة من إجابتى التى ألقمته إياها كحجر صوّان فى فمه! الخلاصة.. أن وزير خارجية إسرائيل كان مشغولاً فى هذه المرحلة -كان ذلك فى أواسط ثمانينيات القرن الماضى- بالشرق الأوسط الجديد الذى استلهمته كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية -لاحقاً- عندما تحدثت عن مشروعها الخاص بهذه المنطقة، وعن فكرتها الشهيرة «الفوضى الخلاقة».. وكلنا يعرف أن نظرية شيمون بيريز تتأسس على معادلة ثلاثية الأبعاد هى: العقل الإسرائيلى والمال النفطى (الخليجى) والأيدى العاملة المصرية (الرخيصة)، بحيث يتم -فى هذه الحالة- تدشين المرحلة الإسرائيلية التى ستكون الدولة العبرية فيها سيدة المنطقة بلا منازع. وعندما فشل هذا المشروع الذى اعتبرته كوندوليزا رايس مشروعها الخاص، وتألم شيمون بيريز لأنه لم يتحقق منه سوى الجانب الأصغر الذى تترجمه بجلاء اتفاقية الكويز التى جعلت للمصنوعات الإسرائيلية موطئ قدم فى بلادنا.. لذلك، وبحسب نظرية توزيع الأدوار، كان لابد أن يتلقفه ساركوزى (فى فرنسا) متحدثاً عن مسمى آخر هو الاتحاد من أجل المتوسط، لكن مضامينه لا تختلف كثيراً عن بعض مضامين مشاريع الشرق الأوسط الجديد أو الكبير أو الموسع. ولقد ناور الإسرائيليون -كعادتهم- باعتبار أن مشروع الشرق الأوسط الجديد هو مشروع إسرائيلى ناطق باللغة الفرنسية، فلقد تحفظوا على انضمام جامعة الدول العربية، وحقها فى حضور الاجتماعات، مع أن الجامعة تتمتع بهذه الصفة ضمن مسار برشلونة، الذى ألغى اليوم، ليحل محله الاتحاد الوليد. وكانت المفاجأة أن إسرائيل، لكى تتنازل عن معارضتها لوجود الجامعة العربية ضمن هذا الاتحاد، يجب أن يتم تصعيدها لتصبح أميناً عاماً مساعداً. ماذا يعنى كل ذلك؟.. يعنى -أولاً- أن حلم إسرائيل الخاص بالهيمنة على المنطقة، قد تحقق منه الجزء الأول، وثانياً أنها ستجلس على مائدة مفاوضات وحوارات ومناقشات (واحدة) مع العرب، وثالثاً ستدرس معهم تصوراتها الخاصة بمعادلة الأمن والاستقرار القائمة على الأبعاد الثلاثة التى أشرنا إليها آنفاً، وهى العقل الإسرائيلى، والمال النفطى، والأيدى العاملة المصرية، وتعنى رابعاً أن مبادرة السلام العربية التى أطلقتها قمة بيروت عام 2002 أصبحت جثة هامدة لا حراك فيها، لأنها -ببساطة- كانت توفر لإسرائيل حواراً مباشراً مع العرب، وفق صيغة الأرض مقابل السلام، أى أنها كانت توفر السلام والحوار والنقاش والتعاون بشرط انسحاب إسرائيل من الأراضى العربية التى احتلتها فى 1967.. لكن هذه الأجواء وتلك الأنشطة وهذه الأفكار قد وفرتها (مجاناً) صيغة الاتحاد من أجل المتوسط. السؤال الآن: إلى متى سيظل نفر من مسؤولينا يتعاملون معنا بمنطق أنصاف الحقائق، وإلى متى ستظل الميديا العربية تتعاطى مع الرأى العام المصرى والعربى على أنه أهطل أو قاصر، وربما غبى!