لم يكن اسم البيكولو تياثرو اي المسرح الصغير في ميلانو معبرا تماما عن حقيقة هذه المؤسسة التي تسمي بهذا الاسم, فهو ليس صغيرا, وهو ليس مسرحا واحدا وانما ثلاثة مسارح احدها واسمه الاستوديو, حقا مسرح صغير مخصص للعروض التجريبية, شاهدنا فيه عرضا لمدة أربعين دقيقة للمخرج المصري احمد العطار. بعنوان اهمية ان اكون عربيا. ولكن المسرحين الآخرين, مسرحان كبيران احدهما باسم رائد مسرحي ايطالي اسمه جراسي والثاني باسم مؤلف موسيقي اسمه سيتلر, وفي مسرح جراسي جلست في الصفوف الأولي من القاعة لمشاهدة مسرحية من مسرحياتي عنوانها الغزالات كان سيجري تقديمها تلك الليلة باللغة الايطالية, وقبل العرض سمعت السيدة الكاتبة والمخرجة انجيلا لوكريزيو كاليشيو مديرة المهرجان تدعوني للوقوف بجوارها تحت الأضواء لأخاطب الجمهور, وبرغم انني قد احطت علما باحتمال أن ادعي لتقديم المسرحية فإنني لم أكن واثقا من ذلك, ولم أقم بأي تحضير لهذا الموقف, وفعلا نهضت من مكاني لأقف بجوارها تحت الأضواء وامامها مكبر الصوت تخاطب عبره جمهور الحاضرين, وتقدم لهم نبذة قصيرة عني قبل أن تدعوني لإلقاء كلمتي التي ستنقلها فتاة من اصل ليبي, الي اللغة الإيطالية, وفي وقت قصير لا يزيد علي سبع دقائق قدمت ملخصا عن مسرحية الغزالات التي كتبتها منذ أكثر من ثلاثين عاما وكانت ازمة الطاقة حديث العالم, حيث بدأت الشرارة التي اشعلت ملكة الإبداع لكتابة المسرحية من هذه الازمة, إلا أن المسرحية تجاوزت هذا الحدث العارض, لتتعامل مع قضايا الوجود, وتتعاطي مع الشرط الانساني في محيط وعصر ومكان وظروف تتشابك وتتفاعل وتصنع المحنة التي يتعرض لها ثلاثة اشخاص رجلان وامرأة يقومون برحلة في الصحراء الكبري لصيد الغزلان, كما تقدم المسرحية تصورا عربيا عن علاقة الشرق بالغرب من خلال المرشد الصحراوي الذي يقود الرحلة, وخبير النفط الامريكي وصديقته الانجليزية وهما يتنزهان في الصحراء, مؤكدا في حديثي ان رسالة المسرحية تتوافق وتتواشج مع رسالة المؤسسة المنظمة للمهرجان وغيره من مهرجانات تعمل علي تعزيز ثقافة الاختلاف, وتسعي من اجل تعميق التواصل بين الثقافات وبين الحضارات, ولا شك ان الثقافة قلت في كلمة التقديم القصيرة تبقي قبل السياسة هي عامل التوحيد والتواصل وتوثيق الصلة وتعزيز التفاهم بين الشعوب, وتأتي الآداب والفنون في مقدمة هذه الوسائل القادرة علي تقديم المشاعر والاحاسيس التي تجمع البشر, وتعميق الوعي بالقواسم المشتركة بين الناس مهما اختلفت اماكنهم ودياناتهم ولغاتهم وسياسات حكوماتهم وبلدانهم, ولهذا فليس غريبا ان نري العامل الثقافي اليوم يتقدم العوامل الاخري ليصبح اكثرها فعالية في تحريك التاريخ, وأكثرها قدرة علي تحقيق التنمية ورفع المستوي المعيشي للشعوب, واصبحت الثقافة فكرا وعلما وأدبا وفنا وتربية وتعليما هي كلمة السر لتحقيق ما يسمي الإقلاع كمثل ذلك الذي حققته الشعوب في منطقة جنوب شرق آسيا. لقد بدأت بمسرحية من تأليفي دعيت لحضور عرض لها, من خلال جمعية خيرية ثقافية إيطالية تسعي لتعريف شعبها بثقافات الشعوب الاخري, وتتحرك بامكانات ذاتية وجهود تطوعية, الي حد ان المسرحية التي انتدب لإخراجها مخرج شهير وشارك في تقديمها ممثلون معروفون, هم ايضا يعملون بشكل شبه تطوعي, ولذلك لم يكن ممكنا ان يتفرغوا للتحضير لها تفرغا يؤهل الممثلين لحفظ الأدوار, ولذلك فالعمل في مثل هذه المهرجانات يقدم تقديما أكاديميا وليس حرفيا, اي أن العرض يتوافر علي كل مفرداته من ديكور وملابس واضاءة ما عدا فترة التحضير التي غالبا ما تكون قصيرة, فيسمح للممثل هنا بالاستعانة بالنص المكتوب يقرأ منه, فيما يسمي بنص في اليد, ولهذا فبرغم الامكانات المحدودة فإن هذه الجمعية واسمها المركز الدولي للمسرح الجديد في ميلانو تواصل منذ عدة سنوات تقديم هذا الموسم السنوي من العروض المسرحية دون انقطاع, بحيث تخصص في كل سنة منطقة من مناطق العالم تعمل علي تقديم عروض منها, وكانت الدورة مخصصة هذا العام لبلدان الشمال الإفريقي, وعندما يفشل بلد من البلدان في إرسال فريق يمثلها كما حدث مع ليبيا في هذه الدورة فإنها لا تترك مكان القطر الذي امتنع عن المشاركة شاغرا, وانما تعمل علي استنفار مهارات في التمثيل والإخراج والديكور والصوت والإضاءة بين اعضاء المجتمع المسرحي الايطالي, لتغطية الفراغ, وإحضار من يقوم بالتمثيل الرمزي لبلاده, كما حدث هذه المرة عندما تم الاكتفاء بدعوة كاتب المسرحية لحضور هذا العرض بالتعاون مع الاكاديمية الليبية في روما. [email protected]