مما لا شك فيه أن تركيا الجديدة مع قيادة حزب العدالة والتنمية خطت خطوات واسعة لتكون النموذج البديل لحكم إسلامي رشيد بالمنطقة العربية يكافئ أو يقترب في قوته من كتل إقتصادية أخري كالإتحاد الأوروبي. ويبدو أن هذا التكتل الجديد الذي لن تقوده تركيا بمعزل عن مصر بدأ يتشكل بقوة قبل ثورات الربيع العربي, وحتي بعد هذه الثورات التي فاجأت السياسة الخارجية التركية, إلا أنها وبسرعة تمكنت من تبين خريطة طريق جديدة لبلورة ما أفرزته هذه الثورات, في طريق تنمية المصالح والروابط بالنظم الوليدة بالشرق الاوسط. وفي القاهرة, زجت تركيا بسفير فوق العادة وهو حسين بوتسالي الذي يجيد العربية, ولديه مهارات الالتحام بالمجتمع المصري بفاعلية وإنسيابية دبلوماسية فائقة, فهو لا يهتم بالشكل, ولكنه ينفذ إلي عمق الموضوعات, ولا يحفل بالكثرة الإعلامية, ولكنه يهتم بالفاعلية الإعلامية.. وعلي هذا النسق, وفي إطار تدشين قوتها الناعمة لدعم تعاونها مع مصر القوة الفاعلة بالمنطقة نظمت السفارة التركية بالقاهرة منتدي للحوار تحت عنوان الديناميكية السياسية والأمنية الجديدة في الشرق الأوسط: مصر وتركيا.. الندوة أقامتها المؤسسة التركية للدراسات الإقتصادية والاجتماعية بالتعاون مع مراكز بحثية مصرية وحزب الحرية والعدالة ومؤسسة إبدأ. والمؤسسة التركية هي بمثابة بنك أفكار يقوم بعملية التحليل السياسي والاقتصادي والإجتماعي لكافة القضايا التي تهم تركيا أو تواجهها, وتأسس في1994 بانقرة باسطنبول كجسر بين الأبحاث الأكاديمية, وعملية صنع القرار, وهو يزكي دور المجتمع المدني في العملية الديمقراطية عبر الندوات والمؤتمرات والتي كان آخرها بالقاهرة. الندوة التي عقدت علي جلستين ناقشت في الأولي مصر وتركيا في ظل المتغيرات الإقليمية حيث حاولت الإجابة عن تساؤلات مهمة منها تحديات وفرص الربيع العربي علي مصر وتركيا, والخطوط الرئيسية للسياسة الخارجية بكلا البلدين, وما تأثير السيناريوهات المستقبلية لكل من العراق وسوريا, إضافة لكيفية التعاطي مع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. أدار النقاش صبيحة سينسيل جوندوجار من المؤسسة التركية للدراسات الأقتصادية والإجتماعية, وتحدث خلالها ميسوت أوزكان مركز الدراسات الإستراتيجية بالخارجية التركية,, وبمشاركة عمر دراج عن حزب الحرية والعدالة, وعمرو شوبك عن المركز المصري للدراسات. الجلسة الثانية حول سياسات التعاون الإقتصادي المستقبلي في ظل إستمرار حالة القلق السياسي, حيث ناقشت الجلسة الإهتمامات الرئيسية لكل من تركيا ومصر, وتأثير الحالة الأمنية والسياسية علي الإقتصاد, ومناطق الإهتمام بين مصر وتركيا, ومفاتيح التعاون الإقليمي. أيضا ناقش رؤية تركيا حول تطوير روابطها الإقتصادية والسياسية مع مصر المنطقة العربية, وهل مصر مهتمة بتدعم روابطها الإقتصادية مع تركيا في مجالي الإستثمار والتجارة؟ وتحدث في هذه الجلسة أسامة فريد عن مؤسسة إبدأ, وصادق يوناي يلدز عن جامعة التكنولوجيا التركية, وطلحة كوز عن جامعة سيهير باسطانبول. والملاحظات الختامية إستعرضها منصور أكوجين مدير المؤسسة التركية. أهم الافكار من الجانب التركي نمو التجارة المصرية التركية حاليا, وزيادة دور تركيا كشريك تجاري, وأن الإقتصاد التركي منذ عام1980 سعي لإشراك الجميع تحت مظلته وخاصة الطبقات الأقل حظا. وناقش البرامج الإصلاحية التي بدأتها مصر مع صندوق النقد الدولي في بداية التسعينيات, والتي ساهمت في تحرير الإقتصاد, ولكن شاب هذه السياسة الإنتقائية بدلا من التنافسية, ودخول القطاع الخاص في السياسة. وتم شرح كيفية خروج تركيا من أزمتها الإقتصادية عام2000, و2001 عبر النهوض بالزراعة, والمشروعات الصغيرة والمتوسطة التي تمثل98% من الإقتصاد التركي, وعبر تقوية دور البنك المركزي وإستقلاليته, والإستقرار في السياسات النقدية والمالية. كما تمت مناقشة التحديات السياسية والإقتصادية بالمنطقة, والتحرش الإسرائيلي عبر تعميق سياسية المستوطنات. أيضا تمت مناقشة فكرة العدالة الإنتقالية, وحاجز اللغة كتحدي للإندماج والتكامل بين تركيا والمنطقة العربية. تحدث أسامة فريد عن مؤسسة إبدأ حيث أوضح صعوبة التنبؤ والتحليل في المرحلة الإنتقالية, كما أكد أسامة فريد في رده علي الأسئلة أهمية إستقلالية البنك المركزي, وسياسة إستهداف التضخم. وأشار إلي تحدي عجز المزانة والفجوة التمويلية التي تقدر بنحو200 مليار جنيه والتي تدعو للتفكير في سياسات جديدة تزيد من العائد من مصادر أخري جديدة بخلاف تحويلات المصريين ودخل قناة السويس. وأشار إلي خطورة حالة الركود التضخمي التي يمر بها الإقتصاد العالمي في الوقت الحالي. إنتهت الندوة التي بلورت بوضوح خطوط التعاون بين البلدين, والنقاش المستقبلي حول المصالح المشتركة, وكيفية التعاون الثنائي بالمنطقة وأيضا بإفريقيا. وتشير الدراسات إلي أن العلاقات المصرية التركية تشكل لتركيا محورا إستراتيجيا, والتعاون الإقتصادي سيكون مفتاحا لدعم هذه العلاقات, وفي هذا الإطار تعمل تركيا علي تكثيف استثماراتها في مصر بنحو1.5 مليار دولار, وتوجد في مصر أكثر من250 شركة تركية, كما أقرت تركيا قروضا مساندة لمصر بشروط ميسرة لدعم الإقتصاد المصري تلقي البنك المركزي شريحتين منها بقيمة مليار دولار. كما إرتفع حجم الصادرات المصرية إلي تركيا بنحو50% لتبلغ1.4 مليار دولار خلال العام الماضي, وبذلك تتصدر مصر المرتبة الثالثة بين الدول العربية المصدرة لتركيا. وتتمثل أهم الصادرات المصرية إلي تركيا في مواد أولية مثل القطن والكربون والاسمنت والبترول ومشتقاته, والصناعات النسجية. العلاقات المصرية التركية تخطو بثبات لتعميق مصالح البلدين في المنطقة, فهل سيكون النظام الإسلامي الليبرالي الذي أفرزته تجربة حزب العدالة والتنمية التركي نموذجا يحتذي لحزب الحرية والعدالة في مصر ؟.. هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة.