نود الإشارة إلي أن هناك فروقات واضحة بين الليبرالية والليبراليين، كما أن هناك خلطا بين الديمقراطية والليبرالية، فكل من يؤمن بالديمقراطية وبتفعيل آلياتها صار ليبرالياً وهذا غير صحيح. كثر في السنوات الأخيرة الحديث عن الليبرالية والليبرالية الجديدة واختلطت المفاهيم وساهمت الالتباسات في نعت الليبرالية بأسوأ الاتهامات، فتارة الليبرالية هي نقيض العدل الاجتماعي وتارة هي الجدار الخلفي للإمبريالية والاستعمار وتارة هي التي سمحت بتزاوج السلطة والمال وتارة هي احتكار رجال الأعمال للثروة، وتارة هي الوجه الملعون للرأسمالية المتوحشة.. وفي المقابل يوصف بها كل مفكر عاقل ومنضبط علمياً وفكرياً، وتارة ينعت بها حزب سياسي له من الشعبية ما يزيد عن غيره، وتارة يوصف بها كاتب يساري ولكن غادر يساريته وتبني الديمقراطية نهجاً وآلية في ظل التحولات الجارية.. والأمثلة علي ما أقول كثيرة فعلي سبيل المثال لا الحصر، تم إعادة تقييم الإنتاج الفكري للعديد من مفكرينا العظام منذ أواخر القرن التاسع عشر، فعلي عبد الرازق الأزهري ليبرالياً وطه حسين الباريسي ليبرالياً، ولويس عوض الإنجليزي ليبرالياً، وزكي نجيب محمود فيلسوف الوضعية المنطقية ليبرالياً، ولطفي الخولي ابن الحركة الشيوعية صار ليبرالياً وحازم الببلاوي وسعيد النجار الاقتصاديان العملاقان ليبراليين والدكتور محمد السيد سعيد، -شفاه الله وعافاه- يعتبرونه ليبرالياً بين اليسار ويسارياً بين الليبراليين، وكذلك د. حسام بدراوي الطبيب والقيادي بالحزب الوطني ليبرالياً ود. علي الدين هلال أمين التثقيف بالحزب الوطني ليبرالياً والدكتور عبد المنعم سعيد الباحث الليبرالي بحق- ليبرالياً. وبعض رجال الأعمال الذين لم يقرأوا كتاباً صاروا ليبراليين، وبعض قيادات حزب الوفد ليبراليين بحكم التاريخ الليبرالي لحزب الوفد قبل عام 1952م وأصحاب المشروعات الخاصة العملاقة ليبراليين، ومتعهدو الأجندات الاختراقية ليبراليين، وأخيراً لوبي المصالح الاقتصادية سواء بالحزب الحاكم أو غيره يمثلون الليبرالية الجديدة.. وهكذا صارت الليبرالية مرتعاً يوصف بها كل من كان ليبرالياً حقيقياً وصادقاً وكل من لا يفقه شيئاً عنها سوي أنها تعني الحرية بلا حدود والاستفادة من التغيرات الحادثة في العالم. وقبل البدء في تفنيد تلك الالتباسات نود الإشارة إلي أن هناك فروقات واضحة بين الليبرالية والليبراليين، كما أن هناك خلطا بين الديمقراطية والليبرالية، فكل من يؤمن بالديمقراطية وبتفعيل آلياتها صار ليبرالياً وهذا غير صحيح. فتعريف الديمقراطية يوضح بادئ ذي بدء أمرين. الأول هو أن الديمقراطية لا تتعلق فقط بمجال الدولة أو الحكومة حسب ما ننزع عادة إلي اعتقاده. فالمبادئ الديمقراطية ذات صلة وثيقة بالاتخاذ الجماعي للقرارات في أي نوع من التجمعات. ذلك أن هناك في الواقع علاقة مهمة بين الديمقراطية علي مستوي الدولة أو الحكومة وبين الديمقراطية في المؤسسات المجتمعية الأخري. بيد أن الديمقراطية علي مستوي الدولة ذات أهمية حاسمة، بالنظر إلي أنها التجمع الأكثر شمولاً، وأن من حقها تنظيم شئون المجتمع ككل، وأن لها سلطة علي أعضاء الجماعة. والأمر الثاني هو أن الديمقراطية ليست سمة مطلقة إما أن تكون كاملة أو لا تكون، تتوفر لأي مجتمع بكاملها أو لا تتوفر له علي الإطلاق. وإنما هي بالأحري مسألة نسبية تتعلق بمدي تحقق مبدأي الرقابة الشعبية والمساواة السياسية، وبمدي الدنو من المثل الأعلي للمساواة في المشاركة في اتخاذ القرارات الجماعية. وقد تعارفنا علي إطلاق صفة "الديمقراطية" علي الدول التي تكون فيها الحكومة مسئولة أمام الشعب من خلال الانتخابات التنافسية للمناصب العامة، ويكون جميع الراشدين فيها متساوين في الحق في الاقتراع وفي الترشيح للانتخابات، وتكون الحقوق المدنية والسياسة مكفولة قانوناً. بيد أن أياً من هذه الدول لا تحقق أي الممارسة مبدأي الرقابة الشعبية والمساواة السياسية علي الوجه الأكمل الذي ينبغي لها. ومن ثم فإن جهود تحقيق الديمقراطية لا تنتهي أبداً، والديمقراطيون في كل مكان منهمكون في نضال من أجل دعم وتوسيع نطاق المبادئ الديمقراطية، أياً كان نظام الحكم أو النظام السياسي الذي قدر لهم أن يعيشوا في ظله. أما الليبرالية فهي تختلف جذرياً، فمعظم الدول الغربية أصبحت "ليبرالية" قبل أن تصبح ديمقراطية. أي أنها أقامت نظاماً دستورياً ليبرالياً قبل أن تمنح حق الاقتراع العام أو تنشئ أحزاباً سياسية كبيرة. وقد كانت السمات الرئيسية لهذا النظام هي: إخضاع الحكومة أو السلطة التنفيذية للقوانين التي يقرها برلمان منتخب "سيادة القانون"، وكفالة حقوق الأفراد في الدعاوي القضائية وفقاً للقانون، وفي حرية التعبير والاجتماعات والانتقال، ووجود سلطة قضائية مستقلة عن الحكومة وعن البرلمان بما يكفي لتكون حارساً علي القانون وعلي هذه الحقوق الفردية. وقد ثبت تاريخياً أن الديمقراطيات التي تم فيها منح حق الاقتراع العام وإنشاء الأحزاب السياسية الجماهيرية دون دعم سابق لهذه السمات الدستورية الليبرالية ديمقراطيات مزعزعة جداً. وهذا يؤدي بنا إلي سبب عملي ثان في أن النظام الدستوري والديمقراطية يتوافقان معاً. فللحكومة في دولة حديثة سلطات ضخمة تحت تصرفها. فإذا لم تبق الحكومة، أياً كانت شعبيتها، خاضعة للقانون مثل أي فرد آخر، أو إذا لم تلزم بالتماس الموافقة علي التشريعات من البرلمان طبقاً للإجراءات المقررة، أو لم تحترم حريات مواطنيها مهما تكن ممارستها غير مستحبة أحياناً، فسرعان ما سيفقد الشعب قدرته علي مراقبتها. فالديمقراطية ليست نظاماً يعطي للناس أي شيء يطلبون في وقت معلوم أو في أقصر وقت أمكن، وإنما هي تكفل الظروف المناسبة لممارسة تأثيرهم ورقابتهم علي الحكومة علي أساس متواصل. وقد تبين أن من بين هذه الظروف تلك العناصر الأساسية في النظام الدستوري الليبرالي السابق إيضاحها سيادة القانون، والفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وضمان الحقوق والحريات الفردية. وهذه السمات، التي تنطوي عليها "الدستورية"، إلي جانب العناصر المكونة الأخري للديمقراطية، تجد أفضل حماية لها في دستور مكتوب تكون فيه حقوق وواجبات المواطنين، وكذلك أجهزة الدولة المختلفة، محددة بوضوح ومعرفة لعامة الناس. ويكفل الاعتراف بالوضع الخاص للدستور بإلزام المسئولين العامين بأداء قسم الولاء له، فوق أي اعتبار أو مصلحة حزبية أو طائفية، ومن خلال اشتراط تدابير خاصة، كأغلبية أو استفتاء، إذا ما أريد تغييره. ومع ذلك فإن احترام الدستور المكتوب لا يكون مضموناً في الممارسة إلا بقدر ما تكون هناك هيئة قضائية مستقلة تتمتع بالسلطة والتصميم علي إنفاذه، ويكون الجمهور عامة يقظاً في الدفاع عنه. فهل تبين الاختلاف؟ وهي أدركنا أنه من الممكن أن يكون هناك ليبراليون، ولكن ليس بالضرورة يتوفر المناخ الديمقراطي؟ وهل أدركنا الفروقات بين دعاة الديمقراطية ودعاة الليبرالية؟ وهل أدركنا حجم النضال لإقامة الديمقراطية والفرق بينها وبين بناء مجتمع ليبرالي حقيقي؟ وأخيراً هل أدركنا الفروقات الواضحة والبينة بين كل الأسماء التي ذكرناها في مقدمة المقال؟ أعتقد أنه علي الأقل- قد تم نفض الغبار عن بعضها وفهم التباسات المصطلحين للبعض الآخر وأن ليس كل ما يؤمن بالديمقراطية ويدعو إليها ليبرالياً.. فالعبرة فيما بعد الديمقراطية.. هل ستكون الليبرالية أم العودة للأيديولوجيات البائدة