في زمن اختلطت فيه الأوراق وتبدلت المفاهيم وصار إعمال العقل شيئا من الجنون، تحولت الليبرالية من فكرة ونظرية إلي مجرد لوحة جميلة وحلم رومانسي، مجرد حائط للمبكي يجلس قبالته من عاشوا الزمن الجميل لليبرالية المعاصرة قبل الثورة، هؤلاء لا يحملون فكرا ليبراليا بقدر ما يحملون ذكريات لتلك الحقبة الليبرالية الرائعة وهؤلاء بالطبع لن يستطيعوا أن ينثروا بذور الفكرة لهذه الأجيال الضائعة، وهناك من يتخذ من حائط الليبرالية هدفا لتصويب هجماته العشوائية في اتجاهات متناقضة، وهناك من يحاول أن يفهم معني الليبرالية حتي يكون ضيفا علي وسائل الإعلام، وهناك من يحاول أن يركب الموجة أيا كان اتجاهها يسارا أو يمينا لكن هناك أيضا أناس يؤمنون بالفكر الليبرالي ويستطيعون تسويقه بقناعات وثوابت أخلاقية لا يخطؤها عقل، بيد أنني أبحث منذ فترة عن أجندة للإصلاح أبحث عن قارب نستقله لننجو جميعا، لقد تسكعت كثيرا علي محطات أيديولوجية وفكرية من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار دونما جدوي. لقد أيقنت أن الحرية المسئولة للفرد ستؤدي إلي نتائج رائعة، إن حرية العمل والإنتاج والتملك وحرية الفكر والإبداع المبادأة، حرية تنقل رأس المال والاستثمارات، حرية القول والفعل كل هذه الحريات المكبلة والمقيدة أدت إلي ارتباك جدول الأولويات حتي لدي النخبة. إن الحرية المسئولة لابد أن تكون خلاقة، بيد أن الكثيرين ممن أعرفهم وأحاورهم حول الفكر الليبرالي كمنقذ وكحل أخير لمشاكل هذا الوطن يخلطون بين الليبرالية والانفلات فهناك تداخل بين العلمانية الفجة ومبادئ الليبرالية المنضبطة. والشعب المصري شعب متدين بالفطرة يرفض الأفكار والأطروحات التي تنحي الدين وتحاول محوه من جدول الأولويات لقد نسي الجميع أن النظام الإسلامي يقترب كثيرًا من الأفكار الليبرالية الحقيقية فالإسلام يحترم الملكية الخاصة ويحترم الحريات الخاصة ويحترم حرية الفكر والعقيدة ويقبل بالتعددية الشاملة بيد أن الجميع قد نسي أن ستة من العشرة المبشرين بالجنة كانوا من أصحاب رءوس الأموال وكبار الرأسماليين عثمان بن عفان، عبدالرحمن بن عوف، أبو بكر الصديق وآخرون، إذن تسقط كل الأفكار والأصوات التي تحارب الليبرالية من زاوية عدم التواءم مع الإسلام أو الأديان عموما، إن النظام الاشتراكي والشيوعي ومشتقاتها تحولت إلي أصنام وتماثيل في متاحف التاريخ الدموي، لا مناص ولا سبيل ولا حل ولا أجندة ولا طريق سوي هذا الطريق الليبرالي ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة.. هل السير في طريق الليبرالية سهل وميسور؟ هل الطريق نفسه ممهد بما فيه الكفاية؟ هل يعرف الآخرون متطلبات الطريق وشروط العبور والسير فيه؟ إن جهودا عظيمة وضخمة يحتاجها الطريق كي يصبح ممهدا ومستوعبا للجميع.. إن الليبرالية تحتاج إلي ما يسمي (إعادة تقديم) أو (إعادة عرض) أو (إعادة تعريف) يجب علينا أن نكون علي قناعة وإيمان بتلك الأفكار التي نحملها وذلك بتطبيقها تطبيقا سليما وراقيا علي مستوي النخب، فالليبرالية لا تستحق منا أن نتعامل معها علي أنها فكرة ونظرية ضيقة المعالم لكنها رؤي فضفاضة غير معقدة لممارسة الحرية المسئولة الراقية التي تحترم التعددية وتؤمن بالآخر وتقبل الخلاف والاختلاف. الليبرالية تعني أن يتحول المجتمع إلي مجتمع منتج ووثاب وخلاق ومبدع من خلال استفزاز وتحفيز المهارات والإمكانيات الفردية إن الليبرالية تهتم بفك عقال العقل من الخرافات والتشوهات الفكرية إن المواهب والإمكانات الفردية هي التي تبني الأمم والشعوب والحضارات أما السير في دروب الماضي عبر أنفاق مظلمة فلن ينتج إلا مزيدًا من التخلف والرجعية.