لك من قلبى المكان المصون ...كل لوم على فيك يهون لك عزم بأن أكون قتيلا ...فيك والصبر عنك مالا يكون هو أبوالفيض ثوبان بن إبراهيم المعروف بذى النون المصرى أشهر الزهاد فى بدايات التصوف الإسلامى وأوحد زمانه علماً وورعاً ولد ذا النون عام 155ه بأخميم بسوهاج ثم رحل منها إلى الفسطاط وعن سبب رحيله يذكر المناوى فى كتاب الكواكب الدرية ( سمع ذا النون ذات يوم من أيام إقامته بأخميم صوت لهو ودفاف فقال ماهذا ؟ قيل عرس ثم سمع بجانبه بكاء وصياح فقال ماهذا ؟ قيل فلان مات قال أعطى هؤلاء فما شكروا وابتلى هؤلاء فما صبروا لله على أن بت بهذا البلد فخرج فوراً إلى مصر فقطنها ) ويشير باحث الآثار الإسلامية أبو العلا خليل إلى أن ذى النون تعنى أحب الحوت وقد أطلقت عليه تشبيهاً بنبى الله يونس عليه السلام فقد كان لذى النون كرامة مع التمساح مثل كرامة يونس مع الحوت يذكر الشعرانى فى كتاب الطبقات الكبرى على لسان ذى النون (جاءتنى إمرأة فقالت أن إبنى أخذه التمساح فلما رأيت حرقتها على ولدها أتيت النيل وقلت اللهم أظهر التمساح فخرج إلى فشققت عن جوفه فأخرجت ابنها حياً صحيحاً فأخذته ومضت ) وقد سئل ذو النون عن سبب توبته فأجاب خرجت من مصر إلى بعض القرى فنمت فى الطريق فى بعض الصحارى ففتحت عينى فإذا أنا بقنبرة - أى عصفورة - عمياء سقطت من شجرة على الأرض فانشقت الأرض فخرج منها سكرجتان - السكرجة إناء صغير- واحدة من ذهب والأخرى من فضة فى أحداهما سمسم وفى الأخرى ماء ورد فجعلت تأكل من هذا وتشرب من هذا فقلت حسبى قد تبت عاش ذو النون فى عصر حافل بكثرة أئمة الفقه وعلماء الحديث ومشايخ الصوفية فتأثر بهم وأخذ عنهم فقد اتصل بالأمام أحمد بن حنبل واجتمع به كما اتصل بالزاهد الكبير بشر الحافى وغيره من شيوخ زمانه واشتغل ذى النون بعلم الحديث وروايته ولم يلبث أن انصرف عنه إلى الاشتغال بنفسه ولما سئل عن ذلك أجاب للحديث رجال وشغلى بنفسى استغرق وقتى دار الأمان مر ذو النون على دار أتقن صاحبها بناءها فلما فرغ منها جلس على بابها فقال له ذى النون أيها المغرور واللاهى عن دار البقاء والسور كيف لا تعمر داراً فى دار الأمان دار لا يضيق فيها المكان ولا ينتزع منها السكان ولا يزعجها حوادث الزمان دار حدودها أربع الحد الأول منازل الراجين والثانى منازل الخائفين والثالث منازل المحسنين والحد الرابع منازل الصابرين وعلى بابها هذا ما اشترى العبد المحزون من الرب العفو فلما سمع الرجل ذلك بكى وباع الدار وتصدق بثمنها على الفقراء طلبا للدار التى وصفها ذو النون ويستكمل أبو العلا حديثه مع محيط فى رحاب ذى النون المصرى ناقلاً عن كتاب النبهانى جامع كرامات الأولياء (وكتب صاحب الدار كتاباً وأوصى أن يجعل على صدره فى لحده ففعلوا ذلك ثم بعد مدة فتحوا قبره فوجدوا مكتوبا فى الكتاب " قد وفينا ما ضمن عبدنا ذو النون " ومن جميل أقواله من علامة سخط الله على العبد خوفه من الفقر ذكر الله دواء وذكر الناس داء فاستكثروا من الدواء وأقلوا من الداء وحين سئل ذى النون بم عرفت ربك ؟ فقال عرفت ربى بربى ولولا ربى ماعرفت ربى ارتضع ذى النون ثدى العناية وشرب من معدن الحكمة وغاص فى بحار المعرفة فأتى بالعجب العجاب وهو أول من فسر إشارات الصوفية فتكلم عن الأحوال ومقامات أهل الولاية وكان هذا العلم الباطنى جديد على أهل مصر يقول ذى النون (سافرت سفرة فجئت بعلم يعرفه العام والخاص ثم سافرت ثانية فجئت بعلم يعرفه الخاص وينكره العام ثم سافرت الثالثه فجئت بعلم ينكره الخاص والعام وصرت به وحيداً فريداً شريداً طريداً) إتهام بالزندقة ويتابع أبو العلا خليل أن السيوطى فى كتاب حسن المحاضرة ذكر (فأنكر أهل مصر على ذى النون وقالوا أنه أحدث علماً لم تتكلم فيه الصحابة وسعوا به إلى الخليفة العباسى المتوكل ورموه عنده بالزندقة) فاستدعى الخليفة المتوكل ذا النون من مصر إلى بغداد لمحاكمته وفى محبسه كان ذا النون يناجى ربه لك من قلبى المكان المصون ...كل لوم على فيك يهون / لك عزم بأن اكون قتيلا ...فيك والصبر عنك مالا يكون ويقول ذا النون ( لما حملت من مصر فى الحديد إلى بغداد لقيتنى إمرأة زمنة - أى عجوز- فقالت إذا دخلت على المتوكل فلا تهبه ولا ترى أنه فوقك ولا تحتج لنفسك لأنك إن هبته سلطه الله عليك وإن حاججته عن نفسك لم يزدك ذلك إلا وبالاً وإن كنت بريئاً فادع الله تعالى أن ينتصر لك ولا تنتصر لنفسك فلما دخلت على المتوكل قال لى ما تقول فيما قيل فيك من الكفر والزندقة ؟ فسكت ثم قال لى لم لا تتكلم؟ فقلت يأمير المؤمنين إن قلت لا كذبت المسلمين وإن قلت نعم كذبت على نفسى فافعل انت ماترى فأننى غيرمنتصر لنفسى فبكى المتوكل وقال هو رجل برئ مما قيل فيه ورده مكرماً إلى مصر وقال وهو يودعه إن كان هؤلاء زنادقة فما على وجه الأرض مسلم الطيور تودعه وتستمر رحلة محيط مع أبو العلا خليل ليصل بنا إلى دار الأمان للفقيه العالم الزاهد ذى النون المصرى أول صوفى فى مصر الإسلامية ففى سنة 245ه. وعن عمر قارب التسعين ودّع الفقيه دنيا الناس وقبل أن تغمض عيناه قيل له ما تشتهى؟ فقال أعرفه قبل موتى ولو بلحظة ويقول الشعرانى فى الطبقات الكبرى (لما توفى رضى الله عنه بالجيزة حمل فى قارب مخافة أن ينقطع الجسر من كثرة الناس فى جنازته ولما أخرج من القارب وحمل على أكتاف الرجال جاءت طيور خضر ترفرف على جنازته حتى وصلت إلى قبره ولما دفن غابت وعندما رأى أهل مصر ذلك ندموا على ما فرط منهم فى حق ذلك الولى واستغفروا مما أنكروه عليه من ولايته وما ألحقوه به من الأذى فى حياته وأجلوه بعد ذلك واحترموا قبره) يقول صاحب الكواكب الدرية (أقام سهل بن عبد الله التسترى سنين لا يسند ظهره للمحراب ولا يتكلم فلما كان ذات يوم بكى واستند وتكلم وبالغ فى إبراز المعانى العجيبة والإشارات الغريبة فلما سئل فى ذلك أجاب كان ذا النون بمصر حياً فما تكلمت ولا استندت إلى المحراب إجلالاً له والآن قد مات فقيل لى تكلم فقد اذنت) وفى كشف المحجوب يقول الهجويرى (وفى ليلة وفاة ذا النون رأى سبعون رجلاً رسول الله صلى الله عليه وسلم فى النوم وهو يقول جئت لألقى ذا النون خليل الله ولما فاضت روحه وجد مكتوبا على جبينه " هذا حبيب الله الذى مات فى حب الله " يقع ضريح ذى النون المصرى بقرافة سيدى عقبة بالإمام الشافعى.