الفتوى: سرقة الكهرباء حرام شرعًا وخيانة للأمانة (فيديو)    النشرة الصباحية من «المصري اليوم»: 10 قرارات جديدة للحكومة .. القبض على الشيخ صلاح التيجاني    نشرة ال«توك شو» من «المصري اليوم»: ارتفاع الأسعار ونداء عاجل للحكومة.. تصريحات الفيشاوي ونهاية تخفيف الأحمال    مجموعة أمريكية تطالب بإنهاء الدعم لجرائم الحرب التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي    النفط يتجه لتحقيق مكاسب أسبوعية بعد خفض الفائدة الأمريكية    أسعار الأسماك والدواجن اليوم 20 سبتمبر    من البرتغالي للألماني.. هل يغير اجتماع الرابطة مصير لجنة الحكام    مصرع وإصابة 3 في حادث انقلاب سيارة بالصحراوي الغربي ب جهينة    عبد الباسط حمودة: عشت أيام صعبة وأجري في الفرح كان ربع جنيه    «دمعتها قريبة».. عبدالباسط حمودة يكشف عن أغنية أبكت ياسمين عبدالعزيز (فيديو)    المراكز الإفريقية لمكافحة الأمراض: جدري القردة خارج نطاق السيطرة    التوت فاكهة الغلابة.. زراعة رئيسية ويصل سعر الكيلو 40 جنيه بالإسماعيلية    ماكرون يخاطب اللبنانيين في مقطع فيديو ويؤكد وقوف فرنسا إلى جانبهم    دعاء يوم الجمعة.. أفضل ما يقال للرزق والسنن المستحبة    بالأسماء| انتشال جثة طفل والبحث عن شقيقته سقطا في ترعة بالزقازيق    حرب غزة.. قوات الاحتلال تنكل بجثامين الشهداء الثلاثة في قباطية    مصرع شقيقين تحت عجلات قطار في المنيا بسبب عبور خاطئ للمزلقان    رابطة الأندية تكشف سبب تأخر تسلم درع الدوري ل الأهلي    وينسلاند: التوسع الاستيطاني في الأرض الفلسطينية المحتلة يغير المشهد ويزيد تعميق الاحتلال    ترامب يثير الجدل بتصريحاته عن إسرائيل: أفضل صديق لليهود    مقتل شاب على يد جاره في مشاجرة بدار السلام    موسم سيول شديدة.. الأرصاد تعلن توقعات فصل الخريف    الرئيس التنفيذي لشركة نايكي الأمريكية يعتزم التقاعد    عبدالباسط حمودة: أبويا كان مداح وكان أجري ربع جنيه في الفرح (فيديو)    دينا: ابني فخور بنجاحي كراقصة    صفارات الإنذار تدوّي في عدة مقاطعات أوكرانية وانفجارات ضخمة في كييف    مساجد شمال سيناء تعقد 53 ندوة علمية دعوية عن سيرة النبي    قرار جديد من وزير التربية والتعليم قبل بدء العام الدراسي المقبل 2025    بريست يحقق فوزا تاريخيا على شتورم جراتس    الداخلية تكشف كواليس القبض على صلاح التيجاني    بعد القبض عليه.. تفاصيل القصة الكاملة لصلاح التيجاني المتهم بالتحرش    أحمد فتحي: أنا سبب شعبية هشام ماجد (فيديو)    الداخلية: فيديو حمل مواطنين عصى بقنا قديم    مفصول من الطريقة التيجانية.. تفاصيل جديد بشأن القبض على صلاح التيجاني    الطريقة العلاوية الشاذلية تحتفل بالمولد النبوي الشريف في شمال سيناء.. فيديو    رانيا فريد شوقي عن بطالة بعض الفنانين وجلوسهم دون عمل: «ربنا العالم بحالهم»    ارتفاع جنوني.. تعرف على سعر طن الأسمدة بالسوق السوداء    قبل بدء الدراسة.. العودة لنظام كراسة الحصة والواجب في نظام التعليم الجديد    عيار 21 يرتفع الآن لأعلى سعر.. أسعار الذهب والسبائك اليوم بالصاغة بعد الزيادة الكبيرة    عاجل.. موعد توقيع ميكالي عقود تدريب منتخب مصر للشباب    ليس كأس مصر فقط.. قرار محتمل من الأهلي بالاعتذار عن بطولة أخرى    توقعات الفلك وحظك اليوم.. برج الحوت الجمعة 20 سبتمبر    تعرف على قرعة سيدات اليد فى بطولة أفريقيا    وزير الأوقاف ينشد في حب الرسول خلال احتفال "الأشراف" بالمولد النبوي    أسعار الخضروات اليوم الجمعة 20-9-2024 في قنا    اليوم.. الأوقاف تفتتح 26 مسجداً بالمحافظات    "الآن أدرك سبب معاناة النادي".. حلمي طولان يكشف كواليس مفاوضاته مع الإسماعيلي    مصطفى عسل يتأهل لنصف نهائي بطولة باريس المفتوحة للإسكواش 2024    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 20-9-2024    رسميًا.. فتح تقليل الاغتراب 2024 لطلاب المرحلة الثالثة والدبلومات الفنية (رابط مفعل الآن)    بعثة لبنان لدى الأمم المتحدة: أجهزة الاتصال المستهدفة تم تفخيخها قبل وصولها إلى لبنان    رئيس مهرجان الغردقة يكشف تطورات حالة الموسيقار أحمد الجبالى الصحية    رمزي لينر ب"كاستنج": الفنان القادر على الارتجال هيعرف يطلع أساسيات الاسكريبت    بارنييه ينتهي من تشكيل الحكومة الفرنسية الجديدة    حكاية بسكوت الحمص والدوم والأبحاث الجديدة لمواجهة أمراض الأطفال.. فيديو    وكيل صحة قنا يوجه بتوفير كل أوجه الدعم لمرضى الغسيل الكلوي في المستشفى العام    البلشي: إطلاق موقع إلكتروني للمؤتمر العام السادس لنقابة الصحفيين    مدبولي: الدولة شهدت انفراجة ليست بالقليلة في نوعيات كثيرة من الأدوية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ذا النون المصرى«3»

مع مرور الأيام وتعاقب الزمان يظل التاريخ يحمل لمصر فكرها وفقهها الوسطى الذى أنارت به الدنيا فكانت مهدا للوسطية من خلال فقائها الذين حملوا صحيح الدين ونشروا وسطيته، حتى أصبحت مصر مهدا لتلك الوسطية، رغم المحاولات التى تتم من قبل جماعات وتيارات لتشويه الفكر الدينى المصرى إلا أن جميعها تبوء بالفشل بفضل فقهاء الوسطية المصريين الذين جعلوا من بلدهم أبية على التشدد والتطرف
\يقول الله تعالي: «وكذلك جعلنا لكل نبى عدوًا من المجرمين» ولقد أخذ بعض المؤرخين يعد أعداء الأنبياء من المجرمين،من الممكن أن يعد الإنسان أعداء أولياء الله من المجرمين أيضًا، وذلك أن كثيرًا من الناس قد ملأ الشر قلوبهم، إلى درجة أنهم لا يتحملون رؤية الأتقياء الأولياء.
ويقول الله سبحانه يقول فى حديث قدسي: «من عادى وليًا فقد آذنته بالحرب» فإن الكثيرين يعادون أولياء الله لما فى قلوبهم من شر، ولما فى نفوسهم من حب الإيذاء. ولقد كان لذى النون أعداء إنهم أعداء التسامى فى العالم، وفى الخلق وفى التصوف.

وتكتل هؤلاء الأعداء.. يقول صاحب «الكواكب الدرية» عن ذى النون: «ولما تكلم بعلوم لدنية لا علم لأهل مصر بها، وشوا به إلى خليفة بغداد، فحمل إليه فى جماعة، مغلولًا مقيدًا، فقدم للقتل فكلم الخليفة، فأعجبه، فأطلقه ورفقته، وقال: «إن كان هؤلاء زنادقة فما على وجه الأرض مسلم».
ولكن أهل مصر قوم طيبون فبمجرد أن رأوا ذا النون - وفى يده الغل وفى رجله القيد - أخذوا يبكون، وإذا بذى النون يعلن: «هذا من مواهب الله ومن عطاياه، وكل فعاله عذب حسن طيب» ثم أخذ ينشد مخاطبًا الله سبحانه بشعره:
لك من قلبى المكان المصون
كل هم فيك يهون
لك عزم بأن أكون قتيلًا
فيك والصبر عنك ما لا يكون
ويقص ذو النون بعض أخبار من هذه المحنة فيقول:
«لما حملت من مصر فى الحديد إلى بغداد لقيتنى أمرأة زمنة، فقالت: إذا دخلت على المتوكل فلا تهبه، ولا تر أنه فوقك، ولا تحتج لنفسك محقًا كنت أو متهمًا، لأنك إذا هبته سلطة الله عليك، وإن حاججت عن نفسك لم يزدك ذلك إلا وبالاً، لأنك باهت الله فيما يعلمه، وإن كنت بريئاً فادع الله تعالى أن ينتصر لك، ولا تنتصر لنفسك فيكلك إليها.
فقلت لها: سمعًا وطاعة.
فلما دخلت على المتوكل سلمت بالخلافة.
فقال لي: ما تقول فيما قيل فيك من الكفر والزندقة؟
فسكت.
فقال وزيره: هو حقيق عندى بما قيل فيه.
ثم قال ليك لم لا تتكلم؟
فقلت:
يا أمير المؤمنين، إن قلت لا كذبت المسلمين، وإن قلت نعم كذبت على نفسى بشيء لا يعلمه الله تعالى مني: فافعل انت ما ترى فإنى غير منتصر لنفسي.
فقال المتوكل: هو رجل برئ مما قيل فيه.
فخرجت إلى العجوز، فقلت لها: جزاك الله عنى خيرًَا.. فعلت ما أمرتنى به، فمن أين لك هذا؟
فقالت:
«من حيث خاطب به الهدهد سليمان عليه السلام».. اه تريد بذلك ما قال الهدهد: «وجئتك من سبأ بنأ يقين» أى : عن مشاهدة.
وتريد قول الهدهد:
«أحطت بما لم تحط به»
■ ■ ■
بيد أن قصة هذه المحنة انتهت إلى كثير من الخير، ولقد فصلها بعض من كتبا عن ذى النون من حيث خاتمتها ، وذكر البعض ما لم يذكره الآخرون، ومن أجل ذلك نحب أن نذكر بعض ما ذكروه: روى أبو نعيم فى «الحلية» عن إبراهيم بن يحى اليزيدى قال: لما حمل ذو النون إلى جعفر المتوكل أنزله فى بعض الدور وأوصى به زرافة.
وقال: إذا أنار رجعت غدًا من ركوبى فأخرج إلى هذا الرجل. فقال له زراقة: إن أمير المؤمنين أوصانى بك.
فلما رجع من الغد، قال له: فلما خرج إليه قال له: سلم على أمير المؤمنين.
فقال ذون النون:
«ليس هكذا جاء الخبر.. إنما جاء فى الخبر أن الراكب يسلم على الراجل».
فتبسم أمير المؤمنين وبدأه بالسلام، فلما نزل قال له:
- أنت زاهد أهل مصر؟
- قال: «كذا يقولون».
فقال هل زرافة: إن أمير المؤمين يحب أن يسمع من كلام الزهاد، فأطرق مليًا ثم قال:
«يا أمير المؤمنين إن لله عبادًا عبدوه بخالص من السر، فشرفهم بخالص من شكره، فهم الذين تمر صحفهم من الملائكة فرغي، حتى إذا صارت إليه ملأها لهم من سر ما أسروا إليه.
أبدانهم دنيوية، وقلوبهم سماوية، قد احتوت قلوبهم من المعرفة حتى كأنهم يعبدونه مع الملائكة بين تلك الفرج وأطباق السموات، لم يخبوا فى ربيع الباطل، ولم يرتعوا فى مصيف الآثام، ونزهوا الله ان يراهم يتواثبون على حبائل المكر: هيبة منهم له، وإجلالًا أن يراهم يبيعون أخلاقهم بشيء لا يدوم، وبكثرة من العيش مزهودة، فأولئك الذين أجلسهم على كراسى أهل المعرفة بالأدواء، والنظر فى منابت الداء، فقال لهم:
إن أتاكم عليل من فقدى فداووه، أو مريض من ذكرى فأدنوه، أو ناس لنعمتى فذكروه، أو مابرد لى بالمعاصى فنابذوه، أو محب لى فواصلوه، يا أوليائي، فيكم عاتبت، ولكم خاطبت، ومنكم الوفاء طلبت، ولا أحب استخدام الجبارين، ولا تولى المتكبرين، ولا مصافاة المترفين.. يا أوليائى وأحبائي، جزائى لكم أفضل الجزاء، وإعطائى لكم أفضل العطاء، وبذلى لكم أفضل البذل، وفضلى عليكم أوفر الفضل، ومعاملتى لكم فى المعاملة، ومطالبتى لكم أشد المطالبة، أنا مقدس القلوب، وأنا علام الغيوب، وأنا أعلم بمجال الفكر ووساوس الصدور، من أرادكم بسوء قصمته، ومن عاداكم أهلكته».
ثم قال ذو النون:
«وردت قلوبهم على بحر محبته، فاغترفت منه ريًا من الشراب.. فسهل عليها كل عارض لها دون لقاء المحبوب، قد سكنت لهم النفوس، ورضوا بالفقر والبؤس، وأطمأنت جوارحهم على الدؤوب على طاعة الله بالحركات، وظعنت انفسهم عن المطاعم والشهوات، فتوالوا بالفكرة، وأعتقدوا الصبر، وأخذوا بالرضا، ولهوا عن الدنيا، وأقروا العبودية للملك الديان، ورضوا به دون كل قريب وحبيب، فخشعوا لهيبته، وأقروا له بالتقصير، وأذعنوا له بالطاعة ولم يبالوا بالقلة. إذا دخلوا فأهل تقي، وإذا عوملوا فإخوان حياء، وإذا تكلموا فحكماء، وإذا سئلوا فعلماء، وإذا جهل عليهم فحلماء، فلو رأيتهم لقلت: عذارى فى الخدور، قد تحركت لهم المحبة فى الصدور، بحسن تلك الصور التى قد علاها النور، وإذا كشفت عن القلوب رأيت قلوبًا لينة منكسرة وبالذكر نائرة وبمحادثة المحبوب عامرة، لا يشغلون قلوبهم بغيره، ولا يميلون إلى ما دونه، قد ملأت محبة الله صدورهم فليس يجدون لقرب المخلوقين شهوة، ولا بغير الأنس بمحادثة الله. لذا، أخوان صدق، وأصحاب حياء ووقار، وتقى وورع، وإيمان ومعرفة ودين، فاستقبلوا الوفاء بالصبر على لزوم الحق، واستعانوا بالحق على الباطل، فأوضح لهم الحجة، ودلهم على المحجة، فرفضوا طريق المهالك، وسلكوا خير المسالك، أولئك هم الأوتاد الذين لهم توهب المواهب، وبهم تفتح الأبواب، وبهم ينشأ السحاب، وبهم يدفع العقاب والعذاب، وبهم يسقى العباد والبلاد.. فرحمة الله علينا وعليهم».
لقد سبق أن ذكرنا أن المتوكل بعد أن سمع كلام ذى النون قال: «إن كان هؤلاء زنادقة فما على وجه الأرض مسلم».
ويبدو أن المتوكل أخذ - بعد ذلك - يستدعى ذا النون ويسمع منه، فصاحب «السر المكنون» يذكر قصة طويلة يطلب فيها المتوكل من ذى النون أن يحدثه بأعجب ما رأى فى سياحاته، ويحدثه ذو النون، ولعل من آثار ذى النون هذا السلوك الذى اتخذه المتوكل بالنسبة لأهل السنة من إيقاف التنكيل بهم، ومن اضطهادهم.
إن المتوكل فى صلته الوثيقة بالمعتزلة لم ير فيهم هذا اللون من العبودية لله، والصلة به، ومن الورع والزهد.
وما كان المعتزلة - فى يوم من الأيام - يتجهون هذا الاتجاه، أو يتحدثون بهذا الأسلوب المؤثر، أو تبدو شخصيتهم فى هذه الصورة التى ترى فيها قلوبًا امتلأت بحب الله سبحانه، كلًا، وإنما كانت هذه الصورة كثيرة فى أهل السنة.
ومهما يكن من شيء، فإنه قد آن الأوان لرجوع ذى النون إلى مصر معززًا مكرمًا.
ومر ذو النون، بحاجب المتوكل، هذا الرجل الذى عرف ذا النون عن قرب، فعرف عبادته وذكره وتسبيحه، ونحب أن نذكر هنا قصة عن وداعه لذى النون، يقول دخل على ذى النون ليودعني، فقلت له:أكتب لى دعوة، ففعل، فقربت إليه جام لزوينج، فقلت له: كل من هذا فإنه ينفع الدماغ، وينفع العقل. فقال: «العقل ينفعه غير هذا». قلت: ما ينفعه؟
قال: «اتباع أمر الله والانتهاء عن نهيه، أما علمته أن النبى صلى الله عليه وسلم قال «انما العاقل من عقل عن الله أمره ونهيه».
فقلت له: أكرمنى بأكله. قال: «أريد ألد من هذا» قلت: وأى شيء تريد.
فقال: «هذا لمن لا يعرف الحلوي، ولا يعرف أكلها، وإن أهل معرفة الله يتخذون خلاف هذا اللوزينج».
قلت: لا أظن أحدًا فى الدنيا يحسن أن يتخذ أجود من هذا، فإن هذا من مطبخ أمير المؤمنين المتوكل على الله.
قال:
«خذ لباب مكنون محض طعام المعرفة، واعجنه بماء الاجتهاد.. وطابق صفو الوداد، ثم أخبز لوزينج العباد بحر نيران نفس الزهاد، وأوقده بحطب الأسي..»..
وهكذا أخذ ذون النون يحدثه بهذا الأسلوب المجازى عن مأكول أهل الله، حتى قال له: «ثم كل بأنامل التفويض، فى ولائم المناجاة، بوجدان خواطر القلوب، فعند ذلك تفريج كرب القلوب، ومحل سرور محب الملك المحبوب».
ثم ودعنى وخرج، رحمة الله عليه.
عاد ذون النون لمصر معززًا مكرمًا، ولعل من مقادير الله سبحانه أن محنة ذى النون إنما كانت رسالة يؤديها إلى المتوكل الذى بدأ حياته بمعاداة أهل السنة، فلما أدى الرسالة ونصح للمتوكل انتهت مهمته فى بغداد، وعاد إلى مصر التى كان يهفو فؤاده إليها.
ولعل من تصرفات المقادير أن تكون هذه المحنة من الأسباب التى تجعل حياة ذى النون حياة هادئة، فإنه وقد عاد معززًا مكرمًا من عند الخليفة احترمه الوالى واحترمه غير الوالى ممن يسيرون فى اتجاهات الخليفة، يسخطون إذا سخط، ويرضون إذا رضي.
أكانت محنة؟.. أم كانت كما عبر عنها ذون النون بقوله:
«هذا من منح الله وعطاياه؟».
المحدث المتبع للسنة
إن الاقتداء برسول الله صلى الله وسلم من أجل الأمور التى يسعى إلى تحقيقها الصوفية، وهم يرون - فى صدق - أن القرب من الله سبحانه لا يتأتى إلا بالسير فى الطريق الذى سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن الله سبحانه يقول:
«لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا».
وكيف يقتدى الإنسان برسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن على معرفة بسيرته، ومن أجل هذه المعرفة درس الصوفية السيرة النبوية، درسوها فى مظانها من كتب السيرة ومن كتب الحديث.
وبعض الصوفية خطا خطوة أخرى فاشتغل بالحديث، وأصبح محدثاً، ومن هؤلاء: الفضيل بن عياض.
أما فيما يتعلق بذى النون فإنه درس السيرة دراسة مستفيضة، درسها ليقتدى بها ودرسها ليرشد إليها.
ودرس الحديث، بل وأسند الحديث عن الأئمة - رحمهم الله تعالي: عن مالك والليث بن سعد، وسفيان بن عيينة، والفضيل بن عياض وغيرهم.
ولكن أمره فى إسناد الحديث سار على ما وصف به صاحب «الحلية» إذ يقول:
«شغلته الرعاية عن الرواية».
وذو النون هو الذى يقول:
«من علامات المحب لله: متابعة حبيب الله فى أخلاقه أفعاله وأمره وسننه».
(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله).
ومن كلمات ذى النون التى لها مغزاها فيما يتعلق باتباع السنة الشريفة ما يحدث به محمد بن سعيد الخوارزمى، قال:
سمعت ذا النون وقد سئل عن المحبة قال:
«أن تحب ما أحب الله، وتبغض ما أبغضه الله، وتفعل الخير كله، وترفض كل ما يشغل عن الله، والأ تخاف فى الله لومة لائم، مع العطف للمؤمنين، والغلظة على الكافرين، واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الدين».
ومن الأحاديث التى أسندها ذو النون ما يلى:
يقول أبو الفيض ذو النون عن إبراهيم المصرى:
حدثنا مالك بن أنس، عن الزهرى ، عن أنس، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إن لله -عز وجل- أحبة من خلقه».
قيل: من هم يا رسول الله؟
قال: «أهل القرآن هم أهل الله وخاصته».
ويقول أبو الفيض ذو النون: حدثنا فضيل بن عياض عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«تجافوا عن ذنب السخى فإن لله تعالى أخذ بيده كلما عثر».
ولقد روى ذو النون هذا الحديث الشريف بعدة طرق.
ويقول رضى الله عنه: سمعت الفضل بن هانئ، سمعت مالك بن أنس رحمه الله، سمعت جعفر بن محمد يقول: سمعت أبى يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سمعت جبريل يقول:
«من قال من أمتك -يا محمد- كل يوم مائة مرة: لا إله إلا الله الملك الحق المبين، كان أمانا من الفقر وأنسا من وحشة القبر، واستجلب به الغنى، واستقرع به باب الجنة».
ويقول ذو النون: حدثنا مالك بن سمى عن أبى صالح عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«من قال فى كل يوم: سبحان الله وبحمده -مائة مرة- غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر».
ويقول ذو النون المصرى: حدثنا الليث بن سعد عن نافع عن ابن عمر رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر».
ويقول ذو النون المصرى: حدثنا مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
«من أتى الجمعة فليغتسل».. أخرجه الخطيب فى «رواة الحديث»، والحديث فى «الموطأ».
ويقول ذو النون: حدثنا سفيان بن عيينة عن أبى بكر أنه سمع أنس ابن مالك يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«يتبع الميت ثلاث، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله».
ومن أقواله لرجل:
«ليكن آثر الأشياء عندك وأحبها إليك إحكام ما افترض الله عليك واتقاء ما انهاك الله عنه، فإن ما تعبدك الله به خير لك وأفضل مما تختاره لنفسك من أعمال البر الذى لم يجب عليك وأنت ترى أنها أبلغ لك فيما تريد، وإنما ينبغى للعبد أن يراعى أبدأ ما وجب الله عليه من فرض يحكمه على تمام حدوده، وينظر إلى ما نهى عنه، فيتقيه على إحكام ما ينبغى.
واعلم أن الذى منع العباد عن ربهم، وقطعهم عن أن يذوقوا حلاوة الإيمان وما أعد الله لأوليائه وأعدائه، حتى يكونوا كأنهم مشاهدون لها: التهاون عن إحكام ما افترض عليهم فى قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وأيديهم وأرجلهم وبطونهم وفروجهم، ولو أحكموها أدخل عليهم الفوائد حتى تعجز أبدانهم وقلوبهم عن حمل ما ورثهم الله من معوناته وفوائد كرماته، ولكنهم حقروا محقرات الذنوب وتهاونوا بما فيهم من العيوب، فحرموا ثواب الصادقين».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.