هناك تفسيرات كثيرة لدوافع القرار الاتهامي الذي طالب بموجبه السيد لوريس اوكامبو المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية اصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني الفريق عمر حسن البشير، بعض التفسيرات قضائي بحت مرتبط بمجريات تنفيذ قرارات مجلس الامن حول قضية دارفور، وبعضها سياسي يرى فيها نموذجاً جديداً على انتقائية صارخة في القضاء الدولي حيث نجد «غفوراً رحيما« في امكنة وأزمنة «وشديد العقاب« في أمكنة أخرى وأزمنة مختلفة. بعض هذه التفسيرات محلي مرتبط بصراعات داخلية يجري تحريكها تارة في الجنوب، وطوراً في الشرق، ومنذ زمن في الغرب (دارفور) وبعضها اقليمي مرتبط بنزاعات حادة متحركة في دول القرن الافريقي،
وتلك الرابضة فوق منابع النيل، بل بعض التفسيرات ذو بعد اقتصادي مرتبط بتجرؤ حكومة الخرطوم على «معاندة« شركة شيفرون النفطية (ووزيرة خارجية الولاياتالمتحدة كونداليزا رايس كانت عضواً في مجلس ادارتها) في عقود استثمارات نفطية في السودان، كما على أزمات وقعت مع شركة (توتال) الفرنسية مما حول التنافس التاريخي بين واشنطن وباريس في افريقيا الى «تعاون« فعّال في مواجهة النظام السوداني... لكن كل هذه التفسيرات التي جرى التداول فيها منذ اتهامات اوكامبو، وقبلها ايضاً، لم تتوقف بشكل خاص امام تفسير ذي طابع استراتيجي يتصل بالصراع المحتدم، وان بصمت، بين النفوذ الامريكي الآخذ بالتراجع في العالم، وبين النفوذ الصيني الذي يتسلّل بثبات الى الاقتصاد العالمي في آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية وصولاً الى سندات الخزينة الامريكية ذاتها التي يقال ان الصينيين باتوا يمتلكون منها ما يساوي مليارات الدولارات.
واشنطن تنظر بحذر شديد الى منظومة شنغاي التي بدأت تتحول الى ما يشبه التحالف الآسيوي الواسع الذي تقوده موسكووبكين وتشارك فيه الهند وايران وبعض دول شرق آسيا، بل ان الكثير من المحللين الاستراتيجيين فيها يحملون انهماك ادارة جورج دبليو بوش فيما يسمى «الحرب على الارهاب« مسؤولية الانصراف سنوات عن الاعداد لمواجهة التنامي المتزايد في قوة روسيا والصين وتصاعد نفوذهما ونجاحهما في الاستفادة من المناخ السائد من الممانعة والمقاومة للسياسة الامريكية وجحافلها وحلفائها في الشرق الاوسط والعالم، بل ان بعض هؤلاء المحللين يعتقدون ان الدولتين الدائمتي العضوية في مجلس الامن (روسيا والصين) لم يمارسا حق الفيتو في قضايا عدة كان يفترض بموسكووبكين ان تحميا اصدقاء لهما يستهدفهم مجلس الامن، لا مجاملة لواشنطن او خوفاً من انتقامها كما يبدو للوهلة الاولى، بل ان هذين البلدين كانا متحمسين لتوريط واشنطن ولدفعها الى الانزلاق في بؤر متفجرة عديدة باعتبار التورط والانزلاق هما اقصر السبل لانهاك السطوة الامريكية ولإخراج العالم من نظام الاحادية القطبية ولدفع واشنطن الى التعاون مع قوى اخرى في العالم بدلاً من إملاء مواقفها عليها... هنا يشكل السودان وبنظر كثيرين احد ساحات المواجهة الصامتة بين بكينوواشنطن، ولكن المواجهة الصاخبة والدموية داخل السودان، ومعها نيجيريا احدى بوابات الصين الاخرى الى افريقيا، بل احدى ابرز مصدري النفط، كالسودان، الى الصين، وبالتالي يعتقدون ان اصدار واشنطن، ومعها باريس ولندن، على «مطاردة« القيادة السودانية يهدف الى تحقيق أحد أمرين كلاهما مرَ:
اولهما: استدراج الصين الى مواجهة مكشوفة مع السياسة الامريكية وبالتالي خروجها عن سياستها التقليدية المتبعة منذ سنوات وهي سياسة الانحناء امام العاصفة الامريكية، وسياسة البناء الهادئ لمواقع نفوذ اقتصادي وسياسي واستراتيجي في مناطق أخرى في العالم.
ثانياً: احجام الصين عن الانتصار للسودان في معركته الجديدة، بما يشكل نكسة معنوية لسمعة الصين ودورها، ويدفع الدول ذات الصلة الوثيقة مع الصين، الى ان تعيد النظر في علاقتها ببكين وأن تعود الى «الحضن الدافئ« لنظام عالمي تقوده واشنطن.
فكيف ستتصرف القيادة الصينية ازاء هذه الاندفاعة الهجومية الامريكيةالجديدة، بغطاء قضائي، خصوصاً ان هناك من يعتقد ان السياسة الامريكية تريد ان تحقق انتصاراً في السودان لتغطية فشلها في العراق وافغانستان وفلسطين ولصرف الانظار عن مراوحتها تجاه ايران؟!
فهل نحن امام سياسات صينية معقدة في الموضوع السوداني، على غرار السياسات الروسية في المسألة الايرانية؟ اي هل نحن امام انخراط صيني في اللعبة الدولية ومن ثم السعي لتغيير قواعدها من الداخل، أم اننا سنواجه موقفاً صينياً حاسماً في مجلس الامن يعطّل المسار القضائي الانتقائي الحالي، ويفتح المجال لمعالجة سودانية داخلية لقضية دارفور وفق القواعد الانسانية والوطنية المعروفة، ولمصالحة وطنية تفسح المجال لاوسع مشاركة سياسية في صون المصير السوداني والعربي، أم ترانا نجد انفسنا أمام تخلٍ صيني عن السودان الذي يعتبر انه رغم الطابع الاسلامي لحكومته كان احد المداخل الهامة للصين الشيوعية الى افريقيا؟ فهل تنجح الصين في الامتحان السوداني؟ أم ان ظروف الصين وحساباتها لم تنضج بعد لوقفة حاسمة مع سياسة بوش، حتى ولو كان الرئيس الامريكي في أيام ولايته الأخيرة؟!