قد يقال الكثير عن موهبة المخرج الشاب محمد ياسين وتألقه الكبير في واحد من أهم مسلسلات رمضان لهذا العام وهو الموجة الحارة.. المقتبس عن قصة الراحل أسامة أنور عكاشة. وقد نتوقف طويلاً أمام هذه البراعة فى خلق التوازى المدهش بين الرؤية التليفزيونية والرؤية السينمائية التى حققها هذا المخرج البارع، أو هذا الولع الرائع بالتوقف أمام التفاصيل الصغيرة التى أضفت على العمل كله قالباً سحرياً وخلقت جواً من الصعب الخروج من تأثيره، وقد لا نكف عن تسجيل إعجابنا بهذه الأدوارالماهرة للممثلين.. كباراً وصغاراً. وكيف نجح المخرج الشاب فى أن يستخرج منهم أكثر الطاقات تأثيراً.. وحتى بدا لنا بعضهم وكأننا نراه للمرة الأولى. كل هذه المزايا مجتمعة لا تمنعنا من إدراك حقيقة أكدتها مسلسلات هذا العام بقوة وتأثير، وهى أن نجاح المسلسل اليوم لم يعد مقصوراً على اسم النجم الكبير وهالته التى لا تقاوم وإنما على قوة الموضوع المعالج، وعن الأسلوب والطريقة التى عولج بها. هذه الحقيقة أثبتتها بقوة لا نقاش حولها مسلسلات كالموجة الحارة أو دون ذكر أسماء أو ذات التى انطلقت هادرة لتقول إن الموضوع والأسلوب الذى قدم فيه هذا الموضوع هو السر الحقيقى فى النجاح، وأننا إذا ذكرنا مسار السينما ومسار التليفزيون لوجدنا أن أكثر ما بقى فى الذاكرة من أعمالهما كان هذه الأعمال الناتجة عن أصول أدبية محترمة أو التى اقتحمت مياديناً لم تكن مطروقة من قبل، وأن أسماء النجوم الذين قاموا ببطولة هذه المسلسلات أو هذه الأفلام بدأت تغيب عن الذاكرة، ولا يبقى فى القلب إلا الموضوع الآسر والأسلوب الذكى الذى قدم فيه. فى الموجة الحارة، وهى فى رأيى نموذج مدهش للرأى الذى ذكرته.. مجموعة من الأحداث المتشابكة، الشخصيات المرسومة بدقة فنان متمرس والتى تتداخل أقدارها مع بعضها فى تمازج خلاق ملىء بالإيحاءات والإسقاطات والفكر المتألق الخلاق. هناك أولاً نقطة الانطلاق.. وهى نقطة بوليسية معتادة.. توحى لنا أننا أمام نص بوليسى معتاد سبق أن رأينا مثله كثيراً قبل ذلك.. قتيلة مطروحة فى مصعد عمارة.. يثبت من التحقيقات الأولى أنها مجرد غانية محترفة.. قادها سوء حظها إلى التهلكة. ويعهد بتحقيق الجريمة إلى ضابط فى الآداب.. يجد فى هذه الجريمة فرصة لكى يوجه الاتهام إلى خصم عنيد له.. قواد محترف.. يقود شبكة من الرقيق الأبيض ويستخدم نفوذه، وحماية بعض المسئولين له.. لكى يحقق الكثير من أغراضه المشبوهة. هناك إذن صراع خفى وظاهر.. ابن ضابط الآداب وابن هذا القواد المحترف، ومن خلال هذا الخطأ الدرامى المألوف، لتتفجر فجأة أمامنا وكأننا أمام مغامرة سحرية.. كل باب يفتح أمامنا يقودنا إلى باب آخر.. أكثر قوة وأشد تأثيراً.. وتتوالى الشخصيات تباعاً أمام أعيننا.. الأمهات والأبناء.. العشاق والأرواح.. الدعارة والشرف.. القيم التى تنهار قيمة وراء قيمة أمام أعيننا المبهورة لتكشف خواء مجتمع مهترئ، وفساد عظامه حتى النخاع. المسلسل لا يجنب أحداً.. فى رسمه للشخصيات سواء من جيل سبقنا أو من جيل نعايشه أو من جيل شاب لا ندرك تماماً عمق توجهاته، وإلى أى مصير يتجه وهو مغمض العينين، لا يمكن تلخيص أحداث هذا المسلسل المدهش.. الذى يجمع بين قوة الإخراج المذهلة وبين حس الكتابة المرهف، وبين التفاصيل الموحية والمليئة بالرموز، وبين رسم الشخصيات التى تبدو وكأنها خرجت من لوحة فنان عبقرى.. لم يهمل شيئاً من تفاصيلها الجسدية أو ارتعاشاتها الروحية والنفسية. وتجىء أخيراً عبقرية توزيع الأدوار على هذه الشخصيات التى لبسها الممثلون صغاراً وكباراً، فبدت وكأنها كتبت خصيصاً لهم.. بحيث ضاع تماماً الخيط الرفيع الذى يفصل بين الحقيقة والخيال. الموجة الحارة.. لم تستعن بنجوم كبار.. بل نجحت فى أن تصنع ممثليها كافة نجوماً عمالقة، وأتت لتؤكد لنا ما قالته الأديان السماوية كلها فى لفظ واحد. الكلمة.. ولا شىء غير الكلمة.. وفى البدء كانت الكلمة.. وستزول الدنيا.. وتبقى الكلمة!