ما من شك في أن إبراهيم أصلان كاتب متميز يعرف كيف يصف بكلمات قليلة كل خلجات القلب البشري وتوجهاته.. كما يجيد رسم شخصياته ووضعها في الإطار الخليق بها بحيث تبدو جزءاً لا يتجزأ منه. وما من شك أيضا في أن مجدي أحمد علي مخرج موهوب .. يعرف كيف يدير ممثليه الذين يعملون تحت إمرته ويعرف كيف يخلق جوا وكيف يجعل من شخوص أي فيلم يمسك به جزءاً لا يتجزأ من هذا الجو الذي التصق به كما يلتصق اللحم بالعظم. وما من شك أخيرا في أن فتحي عبدالوهاب طاقة تمثيلية شابة اثبتت جدارتها في أكثر من فيلم سينمائي، بل وأكدت جدارتها أيضا علي خشبة المسرح عندما لعب فتحي دور البطولة في مسرحية «هاملت» لشكسبير واستطاع أن يقف علي قدميه بجدارة في هذا الدور الصعب والمعقد الذي يعتبر اختبارا حقيقيا لأي ممثل يؤديه. وما من شك آخر الأمر في أن مجدي أحمد علي قد أجاد كعادته اختيار الأدوار المساعدة والمساندة لدور فتحي عبدالوهاب الذي يمثل العمود الفقري للفيلم وللقصة الأصلية بدءا من دلال عبد العزيز ومحمود الجندي ووصولا إلي عبير صبري في واحدة من أهم الشخصيات التي جسدتها علي الشاشة. إذن كل هذه المواهب تجمعت في «عصافير النيل» فهل استطاع المخرج الموهوب حقا أن يعطي لهذه العصافير اجنحتها لكي تطير بنا إلي هذه السماء الواسعة الصافية الحلوة التي رسمها وأحسن رسمها إبراهيم أصلان؟» ليست هذه هي المرة الأولي التي تري فيها علي الشاشة أجواء وشخصيات «أصلان» فقد سبق أن سحرتنا واستولت علي البابنا عندما كانت تدور هائمة في حي «الكيت كات» بأمره الشيخ الضرير الذي قادها إلي أعماق قلوبنا وذاكرتنا لتظل ثابتة راسخة فيه وكأنها شجرة جميز ضخمة نبتت علي ضفاف النيل. وها هو مجدي أحمد علي يعود مرة أخري ليقود قلوبنا وأفئدتنا إلي جو أخر وشخصيات أخري خرجت من النبع الغني المعطاء نفسه .. وارتدت ثيابه الملونة بألوان قوس قزح .. وسبحت في مياهه السحرية التي تحيل كل شيء تلمسه إلي لؤلؤ منثور أو ماس صافي نادر. نحن إذن في «عصافير النيل» أمام فتي قدم من الريف ليواجه الكدينة.. المدينة الظالمة الكريمة القاسية المعطاء الغامضة السهلة التي يخيل إليك أنك امسكت بها بين أصابعك، ولكنك سرعان ما تكتشف أنك كنت تجري وراء السراب. منذ البداية .. يتضح لنا ومن خلال مونولوج الراوي الذي يقدم الفيلم والشخصيات.. أن مجدي أحمد علي قد تمسك بثنايا قصة «إبراهيم أصلان» تمسكا كاملا .. دون أن يحاول أن يقدم تفسيرا خاصا به أو رؤية ذات تميز خاص للعمل الأدبي .. هذا ليس عيبا في حد ذاته، وقد استطاع المخرج حتي في النصف الأول من فيلمه الذي يروي علاقة عبدالرحيم الريفي الساذج بجارته «بسيمة» والعلاقة الجنسية الحارة التي ولدت بينهما وانتهت كما ابتدأت بسهولة تثير الدهشة، ثم علاقته بالممرضة التي أشرفت علي علاجه بالمستشفي «أفكار» التي توجت بخطوبة انتهت هي أيضا بنهاية فاجعة تختلط فيها الابتسامة بالدمعة .. وأخيرا علاقته مع الأرملة «أشجان» وأولادها الثلاثة والتي ضحت به كي لا تضحي بزواجها منه بالراتب التقاعدي الذي تركه لها زوجها والذي سيزول لو تم زواجها من رجل آخر. في هذه العلاقات الثلاث التي نري في خلفيتها شخصية «نرجس» أخت عبدالرحيم وزوجها عامل البريد الذي يجيد الإنجليزية وولداهما الصغيران «عبدالله وأسامة» واللذان يرسمان ظلا مدهشا براقا لحياة هذه الحارة الصغيرة في «إمبابة» التي تطل علي بحر النيل حيث يحاول عبدالرحيم منذ ليلة وصوله الأولي أن يصطاد السمك فيصطاد العصفور .. الذي ستكون رواية قصته هي خاتمة الفيلم. حتي مشهد فضيحة الأسانسور حيث يكتشف سكان الحي عبدالرحيم مخمورا ونائما مع إحدي بائعات الهوي مما سيكلفه منصبه في البريد وخطوبته بل وبقاؤه في القاهرة كلها حتي هذا المشهد سار الفيلم حلوا مليئا بالحساسية السينمائية العالية وبالمشاهد التي تترك أثرا قويا في النفس حتي في مغالاتها الجنسية أحياناً لتؤكد «شبق» عبدالرحيم الذي لن يفارقه حتي آخر لحظة من عمره. ولا شك أن أداء مجموعة الممثلين في هذا الجزء من الفيلم كان سبباً إضافيا من أسباب قوته وتأثيره. «دلال عبدالعزيز» في عفويتها وطيبتها وقوة شخصيتها و«محمود الجندي» في شجنه وأفكاره الخفية التي تبدو جلية لنا من خلال تعبير وجهه و«عبير صبري» التي تتألق مضيئة مشعة في شخصية متمردة لها كبريائها وشموخها وحساسيتها وشبقها وتثبت نضجها الفني وقدرتها علي التأثير و«فتحي عبدالوهاب» الذي حاول أن يدخل إلي أعماق هذا الريفي الساذج .. الذي تحركه عواطفه الجنسية أكثر مما تحركه أية عواطف أخري والذي رمي بنفسه في لجة المدينة .. عارفا ومدركا أنها ستغرقه وراضيا مستسلما لهذا الغرق. مجموعة من الممثلين رسمت شخصياتها باقتدار وعرف المخرج كيف يوزعها علي ممثلين أمسكوا بأعماقها وعبروا عنها بقوة وسلاسة وتأثير. ولكن الأمور في «عصافير النيل» تسوء فجأة منذ عودة عبدالرحيم الطويلة إلي قريته إثر اندلاع فضيحته وطرده من عمله إذ إن الأحداث تقفز مرة واحدة سنين طويلة لتعود بنا إلي الحارة نفسها في «إمبابة» وقد شاخت نرجس وزوجها..«من خلال ماكياج شديد السوء أضاع ملامح وتعبير القديرة «دلال عبد العزيز» .. وجعلها تبدو كاريكاتورا مشوها لامرأة عجوز». ويحاول زوج الأخت أن يعيد عبدالرحيم إلي عمله وينجح في ذلك فعلا ويعود عبدالرحيم ليجد أولاد أخته قد أصبحوا شبابا ويركز الفيلم علي أحدهما الأكبر «عبدالله» دون أن ينجح في رسم شخصيته ونوعية الصراع الذي يندفع في أعماق نفسه رغم كفاءة الوجه الجديد الذي يؤدي الدور «والذي بدا لي كالغريق يحاول أن يتمسك بعود من القش لا يجده كما ينجو من الهلاك». كما تاه الفيلم في تفاصيل أخري كثيرة أبعدتنا عن العمود الفقري الذي قام عليه الجزء الأول، التعصب الديني وإثارة وثورة الشباب وزواج عبدالرحيم وإنجابه أولاده الثلاثة ثم لقاءه المدهش في المستشفي مع «بسيمة» والتي يبدأ به الفيلم وتعود بنا الأحداث الأولي من خلال فلاش باك طويل». الجزء الثاني من الفيلم بدا لي وكأنه فيلم آخر .. أخرجه مخرج أخر وكتبه كاتب آخر ومثله ممثلون آخرون ولولا مشهد موت «نرجس» المدهش بكل تفاصيله والنهاية الشعرية لعربات الخضار التي تسير في الصباح الباكر نحو الريف تتبعها المرأة التي فقدت صوابها راجية مستعطفة أن تمتد لها يد رحيمة نهاية عبقرية .. لأحداث مضطربة يعوزها التماسك والمنطق والمصداقية. وإذا كانت هناك نفحة من الشجن في هذا اللقاء الأخير من «بسيمة» التي تقدم بها العمر وعبدالرحيم الذي قهرته السنين زادتها هذه الخاتمة الشعرية التي تروي بصوت المعلق وتتحدث عن العصفور الأسير الذي أمسك به الطفل من ساحة الجريمة ولكنه تمكن أخيرا من الطيران عندما اشتد عوده جمل تضيء بأسلوب «إبراهيم أصلان» المتفرد ونظرته المليئة بالكبرياء والشجن إلي ما يحيط به ولكنها لا تستطيع ردم الفجوات الكثيرة التي امتلأ بها الجزء الثاني من الفيلم والتي كان علي المخرج أن يتداركها في المونتاج لكي يحتفظ بقوة الضرب الشعرية التي نجح كثيرا في تسديدها في الجزء الأول. لقد استطاع مجدي أحمد علي رغم ضبابية جزئه الثاني أن يلقي بحزمة من الضوء الساطع في مشاهد موت نرجس التي وصل بها إلي مستوي عال من التأثير زاد من قوته ضعف المشاهد التي سبقته والانحرافات الكثيرة عن موضوعه الأصلي كمشهد ضرب المتطرفين الدينيين للعجوز حمادة وموقف أهل الحارة السلبي .. وشخصية عبدالله التي كان يمكن أن تكون العمود الفقري للجزء الثاني كله لو أحسن رسمها وتوظيفها وبذلك تكون الرد الدرامي المعقول والمقنع لشخصية عبدالرحيم في الجزء الأول. ولكن كل ذلك ضاع مع الأسف في ضباب كثيف غطي الأحداث والشخصيات وحجب عنها النور. كذلك فقد دور الزوجة كل تأثيره لعدم نجاح السيناريو في رسم شخصيتها بشكل قوي وادماجها في الأحداث الرئيسية مع أنها تشكل الانعطافة الكبري في حياة هذا القروي الذي اضاعته أحلامه وأضله شبقه وجوعه الجنسي ولا يمكن إكمال الحديث عن عصافير النيل دون الإشارة إلي الجهد الكبير الذي بذله مدير التصوير «رمسيس مرزوق» ليجعل من صور الفيلم لألئ صغيرة منثورة تبرق في ظلام ليل الأحياء الشعبية وليلها المسحور وسكانها المغمورين بوجوههم المشرقة أو موسيقي راجح داود الشديدة التأثير والذكاء والتي أعطت بعدا عاطفيا وحسيا للمشاهد زاد من قوتها وتأثيرها وأضافت علي الفيلم كله هالة سحرية اختلط فيها الحس الشعبي بالرؤية الدرامية ودعمت الكثير من المواقف التي أراد لها مخرجها أن تبرز إلي الأمام دور درامي حقيقي عرف الموسيقار الكبير كيف يلعبه بمهارة وذكاء وتخصص. مجدي أحمد علي يعود بعصافير النيل بعد «خلطة فوزية» ليختار الجرأة وفتح الجروح والمواجهة شعارا لسينماه التي يريدها ثورة جمالية تؤرق المشاهد وتدفعه إلي السؤال. ولا يمكن من خلال خضم الأفلام التافهة التي تساقطت علينا في الشهور الماضية إلا أن نقف وقفة إيجابية مع «عصافير النيل» لجديته وصراحته وقوة الضرب فيه خصوصا في جزئه الأول ولأنه يعود بنا رغم عيوبه إلي السينما التي نتحبها وندافع عنها.