القصة هذه المرة طريفة.. ولكنها تشرح دون إخلال أو ملل كيف كان يفى الحاكم بوعده.. وتشرح جيداً كيف كانت شخصيته قبل الخلافة وبعدها! الرواية عن عمر بن عبدالعزيز مرة أخرى.. والراوى هو أحد الشعراء وهو (دكين بن سعيد الدارمى) فيقول: امتدحت عمر بن عبدالعزيز يوم كان والياً على المدينة، فأمر لى بخمس عشرة ناقة من كرائم الإبل، فلما صرن فى يدى تأملتهن فراعنى منظرهن (أى أدهشنى منظرهن) وكرهت أن أمضى فى فجاج الأرض وحدى خوفاً عليهن ولم تسمح نفسى ببيعهن، وفيما أنا كذلك قدمت علينا رفقة تبتغى السفر نحو ديارنا فى (نجد) فسألتهم الصحبة، فقالوا: مرحباً بك ونحن سنخرج الليلة فأعد نفسك للخروج معنا فذهبت إلى عمر بن عبدالعزيز مودعاً فوجدت فى مجلسه شيخين لا أعرفهما فلما هممت بالانصراف التفت إلىّ «عمر» وقال: يا «دكين» إن لى نفساً تواقة فإن عرفت أننى بلغت أكثر مما أنا فيه فأتنى ولك منى البر والإحسان. فقلت: اشهد لى بذلك أيها الأمير. فقال: أشهد الله تعالى على ذلك. فقلت: ومن خلقه؟ فقال: هذين الشيخين. وكان هذان الشيخان هما، الأول: سالم بن عبدالله بن عمر الخطاب، والثانى: أبويحيى مولى الأمير، فانصرف بالنوق إلى ديار قومه ثم دارت الأيام دورتها، ويقول «دكين»: فبينما أنا بصحراء فى أرض اليمامة فى نجد إذا ناعٍ ينعى أمير المؤمنين سليمان بن عبدالملك. فقلت للناعى: ومن الخليفة الذى قام بعده؟ فقال: عمر بن عبدالعزيز. فما أن سمعت مقالته حتى شددت رحالى نحو بلاد الشام فلما بلغت دمشق لقيت «جريراً» منصرفاً من عند الخليفة، و«جرير» هذا شاعر معروف من كبار شعراء العصر الأموى، فانطلقت حتى بلغت دار الخليفة فإذا هو فى باحة الدار وقد أحاط به اليتامى والأرامل وأصحاب الظلامات فلم أجد سبيلاً إليه من تزاحمهم عليه، فرفعت صوتى قائلاً: يا عمر الخيرات والمكارم *** وعمر الدسائع العظائم إنى امرؤ من قطن من دارم *** طلبت دينى من أخى المكارم معنى الدسائع هى الجفنة العظيمة التى يستعملها أهل الجود فى إطعام المساكين، و«قطن»: وادٍ بحضرموت، دارم: بنو دارم من عرب الحجاز. المهم أن مولى عمر بن عبدالعزيز وهو أبويحيى عرف هذا الرجل، فقال: يا أمير المؤمنين إن عندى لهذا البدوى شهادة عليك. فقال عمر: أعرفها. ثم التفت إلىّ وقال: أدنُ منى يا دكين. فلما صرت بين يديه مال علىّ وقال: أتذكر ما قلته لك فى المدينة من أن نفسى ما نالت شيئاً قط إلا تاقت ورغبت إلى ما هو أعلى منه؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين. فقال: وها أنا ذا قد نلت غاية ما فى الدنيا وهو الملك فنفسى تتوق إلى غاية ما فى الآخرة وهو الجنة، وتسعى إلى الفوز برضوان الله عز وجل، ولئن كان الملوك يجعلون الملك سبيلاً لبلوغ عز الدنيا فلأجعلنه إلى بلوغ عز الآخرة. ثم قال: يا دكين إنى والله ما أخذت شيئاً من أموالهم لا درهماً ولا ديناراً منذ وليت هذا الأمر وإننى لا أملك إلا ألف درهم فخذ نصفها واترك لى نصفها. فأخذت المال الذى أعطانيه فوالله ما رأيت أعظم منه بركة.. رحمك الله يا عمر! وللحديث بقية..