ولنتتبع الأحداث سويًا. ذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج17، ص356-357) "وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنُشاب من كل جانب، حتى أُصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتُضحكه، وكانت من جملة الحظايا، وكانت مولّدة تُسمى عرفة، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة. فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز، وكثرة الستائر على دار الخلافة، وكان قدوم هولاكو خان بجنوده كلها –وكانوا نحوًا من مائتي ألف مقاتل- إلى بغداد في ثاني عشر المحرم من سنة 656ه، وهو شديد الحنق على الخليفة بسبب أن هولاكو خان لمَّا كان أول بروزه من همذان متوجهًا إلى العراق، أشار الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي على الخليفة بأن يبعث إليه بهدايا سنيّة؛ ليكون ذلك مداراة له عما يريده من قصد بلادهم، فخذَّل الخليفة عن ذلك دُويداره الصغير أيبك وغيره، وقالوا: إن الوزير إنما يريد بهذا مصانعة ملك التتار بما يبعثه إليه من الأموال، وأشاروا بأن يبعث إليه بشيء يسير، فأرسل شيئًا من الهدايا، فاحتقرها هولاكوقان، وأرسل إلى الخليفة يطلب منه دُويداره المذكور، وسليمان شاه، فلم يبعثهما إليه، ولا بالى به حتى أزِف قدومه، ووصل إلى بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة، ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية، وجنود بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة، لا يبلغون عشرة آلاف فارس، وهم في غاية الضعف"أه. وحتى هذا الجزء من الرواية رغم شدة اختصاره عند ابن كثير، فإننا لا نلمح فيه كبير اختلاف عما أورده مؤرخ المغول رشيد الدين الهمذاني مفصلًا، في كتابه "جامع التواريخ- تاريخ هولاكو"، وإن كان من المؤكد أن من سيقرأ للهمذاني ستتكون لديه صورة أخرى للأحداث، يذكر الهمذاني (م2 ج1، ص267: 268)، "بلغ هولاكوخان الدينور في التاسع من ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وستمائة قاصدًا بغداد، ثم قفل راجعًا ومضى إلى همدان، في الثاني عشر من شهر رجب من تلك السنة. وفي العاشر من رمضان أرسل إلى الخليفة رسولًا يتهدده ويتوعده قائلًا: "لقد أرسلنا إليك رسلنا وقت فتح قلاع الملاحدة –يعني قلاع الخوارج الحشاشين النزاريين-، وطلبنا مددًا من الجند، ولكنك أظهرت الطاعة ولم تبعث الجند. وكانت آية الطاعة والاتحاد أن تمدنا بالجيش عند مسيرنا إلى الطغاة؛ فلم ترسل إلينا الجند، والتمست العذر. ومهما تكن أسرتك عريقة، وبيتك ذا مجد تليد، لا بد أنه قد بلغ سمعك على لسان الخاص والعام، ما حل بالعالم والعالمين على يد الجيش المغولي، منذ عهد جنكيزخان إلى اليوم، والذل الذي حاق بأسر الخوارزمية والسلجوقية وملوك الديالمة والأتابكة وغيرهم، ممن كانوا ذوي عظمة وشوكة، وذلك بحول الله القديم الدائم، ولم يكن باب بغداد مغلقًا في وجه أية طائفة من تلك الطوائف، واتخذوا منها قاعدة ملك لهم. فكيف يُغلق في وجهنا رغم ما لنا من قدرة وسلطان؟ ولقد نصحناك من قبل. والآن نقول لك: احذر الحقد والخصام، ولا تضرب المخصف بقبضة يدك، ولا تلطخ الشمس بالوحل فتتعب. ومع هذا فقد مضى ما مضى؛ فإذا أطاع الخليفة فليهدم الحصون، ويردم الخنادق، ويسلم البلاد لابنه، ويحضر لمقابلتنا، وإذا لم يُرد الحضور، فليرسل كلًا من الوزير وسليمان شاه والدواتدار؛ ليبلغوه رسالتنا دون زيادة أو نقص، فإذا استجاب لأمرنا فلن يكون من واجبنا أن نُكن له الحقد، وسنبقي له على دولته وجيشه ورعيته. أما إذا لم يُصغ إلى النُصح، وآثر الخلاف والجدال، فليعبيء الجند، وليعين ساحة القتال؛ فإننا متأهبون لمحاربته، وواقفون له على استعداد. وحينما أقود الجيش إلى بغداد، مندفعًا بسورة الغضب، فإنك لو كنت مختفيًا في السماء أو في الأرض، فسوف أنزلك من الفلك الدوار، وسأُلقيك من عليائك إلى أسفل كالأسد، ولن أدع حيًا في مملكتك، وسأجعل مدينتك وإقليمك وأراضيك طُعمة للنار. فإذا أردت أن تحفظ رأسك وأسرتك؛ فاستمع لنُصحي بمسمع العقل والذكاء، وإلا فسأرى كيف تكون إرادة الله"أه. ويحكي الهمذاني أنه بعدما بلغ الرسل بغداد، وبلَّغوا الرسالة، أوفد الخليفة شرف الدين بن الجوزي –حفيد الإمام أبو الفرج ابن الجوزي- وكان رجلًا فصيحًا ومعه بدر الدين محمود وزنكي التخجواني بصحبة الرسل لتبليغ رده إلى هولاكو، وروى الهمذاني رسالة الخليفة التي كان مضمونها اعتداد بالنفس مع عدم مبالاة بتهديد هولاكو بالحرب، وتساءل الخليفة في رسالته "إذا كنت مثلي تزرع بذور المحبة، فما شأنك بخنادق رعيتي وحصونهم؟"، وهو تساؤل من الخليفة له وجاهته، ويحمل ضمنيًا تشككه في نوايا هولاكو. وذكر الهمذاني أن الخليفة بعث الرسل مع بعض التحف والهدايا، كما روى الهمذاني (ص270) ما فعله الحنابلة بالرُسل، قال: "وحينما خرج الرُسل من المدينة، وجدوا الصحراء كلها ممتلئة بالرعاع، فأطلقوا ألسنتهم بسبْ الرُسل، وبادروهم بالسفاهة، وأخذوا يمزقون ثيابهم، ويبصقون في وجوههم؛ لعلهم يقولون شيئًا يتخذونه ذريعة لإيذائهم والاعتداء عليهم. فلمَّا أخبروا الوزير بذلك، أرسل على الفور بعض الغلمان فأبعدوهم"أه. وقد غضب هولاكوخان من رسالة الخليفة، وأرسل له يتوعده بالحرب. أما عما اُتخذ من تدبيرات. يقول الهمذاني (ص271: 272) "وبعد أن وصل الرسل بغداد، بلَّغوا رسالة ذلك الملك الفاتح –هولاكو- إلى الوزير –ابن العلقمي-، فعرضها برمتها على الخليفة، فقال: ماذا نرى لدفع هذا الخصم القاهر القادر؟، فأجاب الوزير: ينبغي أن ندفعه ببذل المال؛ لأن الخزائن والدفائن تُجمع لوقاية عزة العرض وسلامة النفس، فيجب إعداد ألف حمل من نفائس الأموال، وألفًا من نجائب الإبل، وألفًا من الجياد العربية المجهزة بالآلات والمعدات، وينبغي إرسال التحف والهدايا في صحبة الرسل الكُفاة الدُهاة، مع تقديم الاعتذار إلى هولاكو، وجعل الخطبة والسكة باسمه. فأُعجب الخليفة برأي الوزير، وأشار بإنجاز ذلك. ولكن مجاهد الدين أيبك المعروف بالدواتدار الصغير –بسبب الوحشة التي كانت بينه وبين الوزير- أرسل إلى الخليفة رسالة بالاتفاق مع الأمراء الآخرين، يقولون: "إن الوزير دبر هذه الحيلة لمصلحته الخاصة، لكي يتقرب زلفى إلى هولاكو، ويُلقي بنا نحن الجنود في البلاء والمحنة. ولكننا سوف نرقب مفارق الطرق، ونُلقي القبض على الرسل، ونأخذ ما معهم من أموال، وندعهم في العذاب والعناء". فعدل الخليفة بسبب هذا الكلام عن إرسال الأحمال، وبدافع من التهور والغرور أرسل إلى الوزير من يقول: "لا تخش القضاء المقبل، ولا تقل خرافة؛ فإن بيني وبين هولاكو خان، وأخيه منكوقاآن صداقة وألفة، لا عداوة وقطيعة. وحيث إنني صديق لهما؛ فلا بد أنهما أيضًا يكونان صديقين ومواليين لي، وإن رسالة الرسل غير صحيحة. أما إذا أضمر الأخوان لي خلافًا وغدرًا، فلا ضير على الأسرة العباسية؛ إذ أن ملوك الأرض هم بمثابة الجنود لي، وهم منقادون ومطيعون لأمري ونهيي، فأدعوهم من كل قُطر وأسير لدفعهما………..""أه. وتكاد تكون نفس الأحداث عند ابن الفوطي وابن العبري، بشكل أقل تفصيلًا، لكن ابن العبري كانت له إضافة وجيهة، وهي أن الخليفة إنما رفض تسيير جيش لمساندة هولاكو في القضاء على الإسماعيلية الحشاشين، لأن أمراءه اعتقدوا أنها خديعة من هولاكو لإخلاء بغداد من الجنود. يقول ابن العبري في "تاريخ مختصر الدول" (ص471-472) "وفي شوال سنة 655ه، رحل هولاكو عن حدود همذان نحو مدينة بغداد. وكان في أيام محاصرته قلاع الملاحدة –الإسماعيلية النزاريين- قد سيّر رسولًا إلى الخليفة المستعصم يطلب منه نجدة، فأراد أن يُسيّر ولم يقدر، ولم يمكّنه الوزراء والأمراء، وقالوا: إنّ هولاكو رجل صاحب احتيال وخديعة وليس محتاجًا إلى نجدتنا، وإنّما غرضه إخلاء بغداد عن الرجال، فيملكها بسهولة. فتقاعدوا بسبب هذا الخيال عن إرسال الرجال. ولمّا فتح هولاكو تلك القلاع، أرسل رسولاً آخر إلى الخليفة، وعاتبه على إهماله تسيير النجدة. فشاوروا الوزير فيما يجب أن يفعلوه، فقال: لا وجه غير إرضاء هذا الملك الجبّار ببذل الأموال والهدايا والتحف له ولخواصه. وعندما أخذوا في تجهيز ما يسيّرونه من الجواهر، والمرصّعات، والثياب، والذهب والفضة، والمماليك والجواري، والخيل والبغال والجمال، قال الدويدار الصغير وأصحابه: إنّ الوزير إنّما يدبّر شأن نفسه مع التتار، وهو يروم تسليمنا إليهم، فلا نمكّنه من ذلك. فبطل الخليفة بهذا السبب تنفيذ الهدايا الكثيرة، واقتصر على شيء نزر لا قدر له. فغضب هولاكو، وقال: لا بدّ من مجيئه هو بنفسه، أو يسيّر أحد ثلاثة نفر: إمّا الوزير، وإمّا الدويدار، وإمّا سليمان شاه. فتقدّم الخليفة إليهم بالمضيّ، فلم يركنوا إلى قوله، فسيّر غيرهم، مثل: ابن الجوزي، وابن محيي الدين، فلم يجديا عنه"أه. وجاءت رواية ابن الطقطقا للأحداث، على اختصارها، موافقة لرواية الهمذاني وابن العبري، يقول (ص335): "وما زالت غفلة الخليفة تنمى، ويقظة الجانب الآخر تتضاعف، حتى وصل العسكر السلطاني إلى همذان، وأقام بها مديدة. ثم تواترت الرُسل السلطانية إلى الديوان المستعصمي، فوقع التعيين من ديوان الخليفة على ولد أستاذ الدار، وهو شرف الدين عبد الله بن الجوزي، فبُعِث رسولًا إلى خدمة الدركاه السلطانية بهمذان. فلمَّا وصل وسُمِع جوابه عُلِم أنه جواب مغالطة ومدافعة، فحينئذ وقع الشروع في قصد بغداد وبث العساكر إليها……"أه. ثم شرع ابن الطقطقا يصف دخول العساكر بغداد، ونلاحظ حذر الكاتب من المغول في اختياره لعباراته، كونه معاصر لهم. يقول ابن العبري في "تاريخ مختصر الدول" (ص445-446) عن المستعصم بالله "كان إذا نُبه على ما ينبغي أن يفعله في أمر التاتار، إما المداراة والدخول في طاعتهم، وتوخي مرضاتهم، أو تجييش العساكر وملتقاهم بتخوم خراسان قبل تمكنهم واستيلائهم على العراق، فكان يقول: أنا بغداد تكفيني، ولا يستكثرونها لي إذا نزلت لهم عن باقي البلاد، ولا أيضًا يهجمون عليّ وأنا بها، وهي بيتي ودار مقامي. فهذه الخيالات الفاسدة وأمثالها عدلت به عن الصواب، فأُصيب بمكاره لم تخطر بباله"أه. وحكى عنه ابن الطقطقا نفس اللامبالاة. يقول في "الفخري" (ص334) "وفي أواخر أيامه –أي المستعصم- قويت الأراجيف بوصول عسكر المغول صحبة السلطان هولاكو، فلم يحرّك ذلك منه عزمًا، ولا نبّه منه همّة، ولا أحدث عنده هَمًّا، وكان كُلّما سمع عن السلطان من الاحتياط والاستعداد شيء، ظهر من الخليفة نقيضه من التفرط والإهمال، ولم يكن يتصوّر حقيقة الحال في ذلك، ولا يعرف هذه الدولة، يسّر الله إحسانها وأعلى شأنها، حقّ المعرفة. وكان وزيره مؤيّد الدين ابن العلقمي يعرف حقيقة الحال في ذلك ويُكاتبه بالتحذير والتنبيه، ويشير عليه بالتيقّظ والاحتياط والاستعداد، وهو لا يزداد إلاّ غفولاً، وكان خواصّه يوهمونه أنّه ليس في هذا كبير خطر، ولا هناك محذور، وأنّ الوزير إنّما يعظّم هذا لينفق سوقه، ولتبرز إليه الأموال ليجنّد بها العساكر فيقتطع منها لنفسه"أه. وفي الجزء الأخير رد عمّن كان يمنع الأموال، ويمنع تجنيد العساكر، وهو ما اتهموا به الوزير. ويذكر ابن العبري في "تاريخ مختصر الدول" (ص473) أول واقعة حدثت بعد المراسلات الأولى بين الخليفة وهولاكو، وكانت بين الدويدار الصغير ومقدمة من جيش التتار قبل بغداد، انهزم فيها التتار أولًا، ثم التقاهم بعض أتباعهم، وهجموا جميعًا على عسكر الدويدار فهزموهم، ونجا هو في نفر قليل من أصحابه، ودخل بغداد. وهي تدل على رغبة الدويدار في القتال، مثلما كان حال سليمان شاه، وعدم تخاذله عنه، وهو ما يبرر طلب هولاكو لهما. وقد ذكر الواقعة ابن الطقطقا أيضًا (ص335-336).