"الفيلا دي مش مجرد طوب وخرسانة... دي بصمات زمن.. أصالة وقيمة إنسانية"... بهذه الكلمات، وصف الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة فيلا الدكتور مفيد أبو الغار، على لسان البطل، الفنان القدير جميل راتب، خلال أحداث مسلسل "الراية البيضا"، الذي عرض في التليفزيون لأول مرة عام 1988، ونجح خلاله في تجسيد حرب الحفاظ على الجمال والأصالة والتراث، في مواجهة تغوّل "سطوة المال" وأمثال "فضة المعداوي"، التي جسدتها الراحلة العظيمة سناء جميل. وبرغم مرور قرابة "34" عاماً على عرض المسلسل الذي لم يتجاوز "16" حلقة فقط، إلا أن الكاتب الراحل الكبير ظل صاحب نبوءة متجددة، تصب أحداث اللعنة كل فترة على أرض الإسكندرية، وكأنما عكست الحقيقة كلمات مقدمة المسلسل، التي أطلقتها الفنانة فردوس عبد الحميد، بقولها: "عفواً.. ليست هذه حرباً عالمية جديدة.. ولكنها فضة"، نعم، تشتعل حرب "فضة" باختلاف صورها وأشكالها و"شخصياتها" كل عقد زمني، فأحداث المسلسل (وفق تتر البداية)، حدثت ولا زالت تحدث. يبدو أن الألفاظ ذات "الحمولة الزائدة"، التي نتجنبها في تناول الموضوعات الصحفية، لن نستطيع هاهنا أن نستثني من ذكرها سطراً واحداً حينما نستعرض مأساة بحجم "هدم لاتيليه الاسكندرية"، والأسباب كثيرة يصعب حصرها جميعاً في بضعة أسطر. كانت الأجواء باردة، إلى حد الصقيع، في "الخميس الأخير" من شهر يناير الماضي، حينما أصدرت محكمة الإسكندرية حكمها ب"طرد" مستأجري فيلا رقم "6" بشارع "فيكتور باسيلي" بمنطقة الأزاريطة، وسط الإسكندرية، إلى هنا والخبر عادي نطالعه يومياً مع قهوة الصباح، ولكن حجم الكارثة يدركها أهل الفن والثقافة في عروس البحر، ممن تلمّسوا أولى نسمات الحضارة عبر جنبات تلك الفيلا العريقة، التي "تستأجرها" واحدة من أقدم الجمعيات الفنية والثقافية بمصر، وأقدم جمعية بالإسكندرية، وهي جماعة "الفنانين والكتّاب"، التي صالت وجالت ورسمت وأبدعت تحت مسمى "لاتيليه الإسكندرية"، الذي يترأسه حالياً الدكتور محمد رفيق خليل، ويتشكل مجلس إدارته من "8" رموز للفن والأدب السكندري، ويرتاده مشاهير الفن والأدب المعاصر من جميع أرجاء الوطن العربي، على مدار سنوات. ولأن دولة القانون، لا تعترف إلا بالأحكام والأوراق، فقد استند حكم "الطرد" على التعديلات الدستورية الأخيرة التي أقرتها المحكمة الدستورية العليا في 2018، بشأن الإيجارات القديمة للمباني، والتي تخوّل لملاك العقارات الحصول على أحكام "طرد" المستأجرين إذا كانوا ذوي "شخصيات اعتبارية"، وهو الأمر الذي انطبق "حرفياً" على "لاتيليه الإسكندرية"، باعتباره في نظر القانون مجرد "فيلا تستأجرها جمعية أهلية". وبعيداً عن التعليق على أحكام القضاء، ثارت موجة غضب واسعة فور انتشار الخبر، ودعا مجلس إدارة أتيليه الإسكندرية، المثقفين والفنانين للتضامن مع الأتيليه المهدد بالطرد والهدم، ودشن الدكتور خالد هنو، عضو مجلس إدارة الأتيليه، وأمين عام المؤتمر الذي يجري التجهيز له، صفحة على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، أطلق عليها "أتيليه الإسكندرية.. إلى أين"، انضم إليها آلاف الفنانين والأدباء والإعلاميين، فيما يشبه حملة شعبية يتم إعدادها للوقوف ضد هدم التراث والتاريخ، ليعيد للأذهان مشهد تراصّ المثقفين وشباب الجامعة و"ولاد البلد" لحماية فيلا أبو الغار في مسلسل "الراية البيضا". فيلا "6" شارع فيكتور باسيلي، أو "قصر تمفاكو"، مبنى أثري، تراثي، حضاري، عريق، يرجع تاريخ إنشائه للقرن التاسع عشر، وبالتحديد في سنة 1893، وهو مسجل ضمن عداد الآثار الإسلامية والقبطية بالقرار الوزاري رقم 538 لسنة 1995، كما هو موضح على بوابة الأتيليه الحديدية، ومسجل فى عداد المبانى التراثية طبقاً للقرار الوزارى رقم 287 لعام 2008 تحت رقم 1346. "لاتيليه الإسكندرية" منظمة غير حكومية، يعتبر نقطة التقاء للمشهد الفني الثقافي السكندري، أنشأه الفنان محمد ناجي فى 1934، أى قبل أتيليه القاهرة بأكثر من عقدين زمنيين، وانتقل للمقر الحالي منذ عام 1969، ويتم تمويل أنشطته من اشتراكات الأعضاء. أتيليه الإسكندرية لا يقتصر على الفن التشكيلي وورش الرسم والنحت والمعارض، ولكنه يقدم مختلف ألوان الفنون والثقافة مثل أفلام السينما ومناقشة الكتب ودواوين الشعر، واستضافة وتنظيم فعاليات إقليمية ودولية كبرى. كان مبنى أتيليه الإسكندرية، قد تعرض في 2015، للاقتحام على يد المالك والورثة وتم كسر باب "مرسم الغمري" الملحق بالحديقة الخلفية للأتيليه، وحرر أعضاء مجلس إدارة أتيليه الإسكندرية محضراً آنذاك، في قسم باب شرق، وتم مخاطبة هيئة الآثار، وقرر مثقفو الثغر وقتذاك، مواجهة الأزمة بعقد الفعاليات الفنية والثقافية بشكل يومي، وتشكيل حراسة ليلية أشبه باللجان الشعبية، تمكنت من السيطرة على الأوضاع، وطالب رئيس أتيليه الإسكندرية، وقتها، بضرورة أن تعود ملكية الأتيليه لوزارة الآثار، على أن يصبح الاتيليه "وصياً" على هذا المبنى الاثرى، ليستمر الدور الفني والثقافي الذي بدأ مسيرته من عام 1934، وتعاقب الملاك على المبنى الأثري، حيث كان المالك الأساسي للمبنى "يونانى الجنسية"، تمفاكو، قام ببيعه لتاجر أخشاب يهودي شامي، باعه بدوره لأحد البنوك الإيطالية، التي أجّرت المبنى للأتيليه، ثم باعه البنك لمالك مصري، حصل أحفاد ورثته حالياً على حكم الاسترداد. مجلس إدارة الاتيليه، سيتقدم باستئناف ضد حكم الطرد، برغم أن أهل القانون يدركون أن المالك مستند إلى مادة واضحة في القانون، ويعلمون أنها "مسألة وقت" لإعادة المبنى للمالك، وطرد جماعة الفنانين والكتّاب، ويخشى المثقفون من احتمالية تحايل البعض على كون المبنى "مسجل آثار"، بما يمكّن المالك من هدم المبنى، كما حدث مع غيره من الفيلات العريقة، أو على أقل تقدير، يتم بيعه، بشكل مؤقت، لأهل البيزنس، ممن يدفعون أكثر، لتحقيق أهداف أبعد، باستغلال "ذاكرة السمك"، فهل تفعلها وزارة الثقافة، وهل تفعلها وزارة الآثار، وهل يفعلها مجلس الوزراء، وهل يتم طرح المبنى للاكتتاب، مثلاً، لإرضاء المالك الأصلي للعقار ببضعة ملايين، لضمان حقوقه المادية، مائة "هل" تتصدر المشهد. وبالعودة لمسلسل "الراية البيضا"، فقد فشلت الدراما في الانتصار للفن والتراث في معركة سطوة النفوذ والمال، وبرغم صيحة تحذير أسامة أنور عكاشة،إلا أنه بعد عرض المسلسل بحوالي 23 سنة، وبالتحديد في 2010، رفعت فيلا "أبو الغار"، الراية البيضا، واستطاع البلدوزر هدم الفيلا الحقيقية التى دارت حولها الأحداث، في غفلة من هيئة الآثار، فهل يتكرر نفس السيناريو مرة ثانية في فيلا "6"، شارع فيكتور باسيلي، قصر تمفاكو، الشهير ب"أتيليه الإسكندرية"؟