بحيث حانت اللحظة التي يلتقي فيها الطرفان وجها لوجه لحسم موضوعات الوضع الدائم حول الدولة الفلسطينية وحدودها؟ تاريخ القضية لا يقطع بإجابات سهلة, ولكن انطلاق الصواريخ في اتجاه إيلات والعقبة, والاشتباكات التي جرت بين الجيشين اللبناني والإسرائيلي, وتطاير التصريحات النارية هنا وهناك تنبئ أن هناك من يأخذ الموضوع بالجدية اللازمة ولا يريد أن يعطي الفرصة لتسوية أو حتي لتقدم علي طريقها. وخلال عقدين من الزمان بات إحباط خطوات الحل السلمي سهلا قدر سهولة تهديد حياة مريض بنكسة دامية بينما لم يترك غرفة العناية المركزة. وما يحتاجه أي تقدم في عملية السلام لا يزيد علي تفجير أو عملية انتحارية أو بناء مستوطنة لجماعة من المتعصبين والمتشددين الذين يفضلون العيش في بلد مكروه دائما علي ممارسة الحياة الطبيعية طالما أنهم حققوا رسالة الاستيطان الصهيونية. ما نعرفه, علي أي الأحوال, أن هناك تقدما جري علي مراحل خلال العقد الماضي, بدأ بعد فشل مؤتمر كامب دافيد بحضور الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات, ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك, تحت إشراف الرئيس الأمريكي بيل كلينتون وقبل أن ينتهي العام2000 كان الرئيس الأمريكي قد وضع مجموعة من القواعد التي تتم التسوية علي أساسها في كل الموضوعات الحساسة بما فيها القدس واللاجئون والحدود. هذه الخطوة التي عرفت بأفكار أو مقاييس أو مؤشرات كلينتونClintonParameters وضعت إطارا عاما وافق عليه الطرفان مع تحفظات تم التعامل معها في شهر يناير2001 فيما عرف بمحادثات طابا التي جرت بين وزير الخارجية الإسرائيلي في ذلك الوقت, وياسر عبد ربه الوزير في الحكومة الفلسطينية, وما تم التوصل إليه في هذه المباحثات وضعه ميجيل موراتينوس مفوض الاتحاد الأوروبي في مفاوضات الشرق الأوسط في شكل وثيقة قيل أن الطرفين قبلا بمحتوياتها. ولكن الانتخابات الإسرائيلية كانت علي الأبواب, كما كانت الانتفاضة الفلسطينية الثانية مستعرة, وفي النهاية انتخب الإسرائيليون شارون, واستمرت الانتفاضة بعد عسكرتها, وبقيت الوثيقة في الأدراج حتي تم استخراجها مرة أخري في إطار عملية أنابوليس في نوفمبر2007, وهذه المرة كان رئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت, ومعه وزيرة الخارجية تسيبي ليفني, حيث جرت المفاوضات في مستوي أول بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن ورئيس الوزراء الإسرائيلي, وأحمد قريع أبو العلاء ووزيرة الخارجية في مستوي ثان, أما المستوي الثالث فقد كان علي مستوي الخبراء والذي كان فيه صائب عريقات ممثلا مع فريقه للطرف الفلسطيني أما الطرف الإسرائيلي فقد قاده أحد أعضاء مكتب رئيس الوزراء يوري ديكيل. هذه المفاوضات جرت تحت الإشراف المباشر لوزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس علي أمل أن تنجز تسوية تحسب لرئيسها جورج بوش قبل خروجه من السلطة, ولما كان ذلك مستحيلا, فإنها قبل خروجها من وزارة الخارجية قامت بوضع وثيقة قيل إنها نهائية من17 صفحة تم تسليمها إلي إدارة أوباما الجديدة, ولكن الحكومة الإسرائيلية كانت قد فقدت مكانها وجاء تحالف الليكود بقيادة نيتانياهو لكي تبدأ العملية من جديد. السيرة السابقة توضح أننا أمام جهد متراكم استمر لأكثر من عقدين, جري السعي فيه عبر طريق طويل ربما كانت نقطة بدايته بالنسبة للفلسطينيين هي اعتراف الرئيس عرفات عام1988 بقرار مجلس الأمن242 وقبوله بحل الدولتين; وبالنسبة للإسرائيليين فقد بدأ مع التوصل إلي اتفاق أوسلو واعتراف إسحق رابين بمنظمة التحرير الفلسطينية وحل الدولتين هو الآخر. ومن الممكن إرجاع الأمر كله إلي اتفاقيات كامب دافيد المصرية التي وضعت الإطار الأول لفصل الأراضي الفلسطينية عن دولة الاحتلال الإسرائيلية. وبعد ذلك تراكمت التوافقات والتفاهمات التي كانت تقطعها دائما توجهات العنف والاستيطان الإسرائيلية من ناحية, وحركات المقاومة الفلسطينية من ناحية أخري, والتغيرات الجارية في السياسة الإسرائيلية الداخلية من ناحية ثالثة والتي كانت تقود دائما إلي بداية جديدة في المفاوضات تكون الجولة الأولي فيها عادة عما إذا كان يمكن قبول ما جري الاتفاق عليه من قبل أم لا؟!. ولكن المفاوضات السابقة كانت دائما لها قوة دفع خاصة تجعلها تعود مرة أخري, وحينما جاء نيتانياهو إلي السلطة عام1996 فإنه رغم رفضه لعملية أوسلو كلها انتهي به الأمر إلي عقد اتفاقين علي أساسها: اتفاق الخليل, واتفاق واي ريفر; وفي كليهما كان عليه القيام بانسحابات جديدة من الأرض الفلسطينية. وعندما جاء إيهود باراك إلي السلطة في عام1999, وتحت غطاء البحث عن تسوية قضايا الحل النهائي فإنه لم يجد هناك سببا لتنفيذ اتفاق واي ريفر, ولكن اجتماعا في شرم الشيخ عقد بعد بضعة شهور أعاد القضية إلي مسارها من جديد. الخلاصة أنه رغم محاولات التملص الإسرائيلية دائما فإن ما تم الاتفاق عليه لا ينتهي في أعماق بحر, وربما كان ذلك ما جري عندما بدأت عملية السلام الحالية بالمفاوضات غير المباشرة حيث قدم أبومازن إلي المفوض الأمريكي جورج ميتشيل اتفاقية سلام كاملة مستندا فيها إلي نفس الاتفاقية التي قدمتها رايس للإدارة الأمريكيةالجديدة. القضية بعد ذلك أنه ليس معلوما رد فعل نيتانياهو بشأن هذه الاتفاقية, ولكن ما تسرب يوحي بأن المنهج الإسرائيلي لا يزال علي حاله وهو الرفض في البداية لما تم الاتفاق عليه من قبل اعتمادا أولا علي أنه لم يجر التوقيع عليه, ولأن الفلسطينيين لم يحدث أن أعلنوا رسميا عن مواقفهم خلال المفاوضات, وأخيرا فإن حجة الانقسام الفلسطيني ما بين غزة ورام الله فيها الكفاية للتملص من تفاهمات سابقة, والتخلص من ضغوط راهنة تجريها الإدارة الأمريكية التي رغم اعترافها بأن القضية ظهرت أكثر تعقيدا مما كان متخيلا' من قبل أوباما وفريقه, فإنه يبدو أن واشنطن باتت مقتنعة أن هناك ما يكفي من التقارب الآن لكي يتم الانتقال من المفاوضات غير المباشرة إلي المفاوضات المباشرة. ولكن ذلك لم يكن الاقتناع الذي توصل إليه أبو مازن, ومن ثم كان تردده في دخول هذه المفاوضات حتي جاءته الرسالة الخشنة جدا من أوباما( قيل من مصادر أمريكية أنها احتوت علي دستة متنوعة من أشكال التهديد, نفتها جميعا المصادر الفلسطينية) لكي يلجأ إلي لجنة المتابعة العربية التابعة للجامعة العربية لكي يحصل من العالم العربي علي المدد اللازم في المباحثات المقبلة. محتويات هذه الاتفاقيات والتفاهمات ليست معروفة, ولكنها لن تخرج كثيرا عن مقاييس كلينتون التي قامت علي انسحاب إسرائيلي من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام1967 علي أن تتم عملية تبادل للأراضي التي تقع فيها المستوطنات الإسرائيلية بعد تجميعها في ثلاث مستوطنات كبري قدرت السلطة الوطنية الفلسطينية مساحتها بما مقداره1.9% من الضفة الغربية بينما كان الإسرائيليون يطرحون أن هذه المستوطنات ومستلزماتها الأمنية تجعل مساحة التبادل بما يوازي7% من أراضي الضفة. ونقلا عن مصادر فلسطينية فإن الفلسطينيين باتوا علي استعداد لتبادل2.3%, أما المصادر الأمريكية فرفعت النسبة إلي ما يقرب من4%. أما بالنسبة للاجئين فإن عودتهم سوف تكون في الأساس باتجاه الدولة الفلسطينية, مع طلب المفاوض الفلسطيني عودة150 ألف فلسطيني إلي أراضيهم داخل إسرائيل. مثل هذه الأخبار والتسريبات والأحاديث الجانبية تشير من ناحية إلي أن الإطار العام لايزال موجودا للمفاوضات, ومن ناحية أخري فإن كل طرف يحاول تحسين مركزه التفاوضي, وأن إسرائيل تحاول الاستفادة من الانقسام الفلسطيني الجاري بعد الانقلاب الذي قامت به حركة حماس علي السلطة الوطنية الفلسطينية في غزة. ولكن هناك جانبا ثالثا لا يمكن تجاهله وهو أن هناك توافقا علي بدء عملية السلام من جديد برعاية أمريكية يقودها هذه المرة باراك أوباما شخصيا, ويدخل فيها العالم العربي ممثلا بدول عربية رئيسية, وبالجامعة العربية المسئولة عن المبادرة العربية للسلام. هل معني ذلك أن الإجابة عن السؤال: هل تفلح المفاوضات المباشرة؟ هي بالإيجاب; والحقيقة أن مثل ذلك ليس مبكرا فقط, بل إن هناك في الواقع ما يمنع ذلك من الحدوث. وفي كل الأحوال فإن ما لدينا هو أقاويل غير موثقة حتي لو كانت المصادر قريبة وموثوقا بها, كما أن القضية ليست التوصل إلي اتفاق بقدر ما هي الشجاعة والقدرة علي تنفيذه وسط بيئة سياسية تعتبر كل تنازل خيانة. وإذا كان أبا إيبان قد قال ذات مرة أن الفلسطينيين لم يتركوا فرصة إلا وأضاعوها, فإن من يدرس تاريخ الصراع سوف يدرك أن المقولة تصدق علي الإسرائيليين أكثر. ولكن المعترضين علي الاتفاق كثرة ولديها العزيمة والزخم وما تتصوره تفوقا أخلاقيا, وبين هؤلاء مستوطنون ومتعصبون ولديهم من الكراهية ما يكفي لاستمرار الصراع حتي نهاية التاريخ. وببساطة فإن الصراع الفلسطيني, والعربي, الإسرائيلي فيه من وقود الصدام ما يشبه ذلك الموجود في المفاعلات الذرية الذي لا ينطفئ إلا عندما ينتهي الأجل وتحين الساعة. ولا يوجد صراع علي وجه الأرض تحدي الزمن وعصر الاستعمار, وتعدد الأقطاب, والقطبية الثنائية والحرب الباردة, والأحادية الأمريكية والعولمة, والآن في عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر, مثل الصراع العربي الإسرائيلي الذي تلون وتشكل مع كل عصر وزمان. *نقلا عن صحيفة الاهرام