تعتمد مصر والسودان كلياً على مياه نهر النيل، الذي يمتد لأكثر من 6 آلاف كيلومتر، وهو أطول نهر في العالم، وعلى مدى القرن الماضي قد بنيت على حد سواء في هذه الدول الصحراوية العديد من السدود والخزانات، على أمل أن يحد من ويلات الجفاف والفيضانات التي عرفتها حتى تاريخهم، وتريد إثيوبيا بناء أكبر سد في أفريقيا على النيل الأزرق بمسافة خمسة وعشرين ميلاً من الحدود الأثيوبية مع السودان، حيث يبدأ فصل جديد في تاريخ طويل من عدوانية النقاش حول ملكية مياه النيل، وآثاره على المنطقة بأسرها. في خريف عام 2012 كشف موقع ويكيليكس عن خطط مصر والسودان لبناء مهبط عسكري لقصف سد النهضة في وادي نهر النيل الأزرق في إثيوبيا، في حال شرعت أديس أبابا في بناء السد وحجب المياه عن دولتي المصب، ونفس التهديد خرج من الرئيس المصري الراحل أنور السادات عام 1979 بالحرب على منتهكي ما اعتبره حقوق بلاده في مياه النيل، وسواء وجدت مثل هذه الخطط أم لا، فإن هناك تاريخاً طويلا من التهديدات والصراعات بين دولتي المصب مصر والسودان، ودول المنبع إثيوبيا، كينيا، أوغندا، رواندا، بوروندي، وتنزانيا، والجميع يزعمون بأن لهم حقوقاً تاريخية في المياه التي يعتمدون عليها في أراضيهم. د.هاني رسلان رئيس وحدة السودان وحوض النيل بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية قال: إن النيل ضروري للحضارة في مصر والسودان، ودون وجود الماء لما كان هناك أي طعام أو حياة، ولا دولة، وكما قال "هيرودوت" في القرن الخامس قبل الميلاد "مصر هبة النيل"، وقديماً سافر على طول ضفاف النيل وروافده للشعوب آلاف السنين، وتبادل العشرات من الجماعات العرقية في مصر وأثيوبيا والسودان الأفكار والتقاليد والدين واللغات والحروف الهجائية، والأغذية والممارسات الزراعية، ولم تكن هناك ولايات في شرق أو وسط أفريقيا للطعن في حصول مصر على مياه النيل، حيث كان النيل بمثابة إله غامض لقدماء المصريين، رحيم في بعض الأحيان، ومنتقم أحياناً بالفيضانات التي يمكن أن تمحو قرى بأكملها، لكن هذه الفيضانات جلبت الطمي البني الذي يغذي الدلتا (واحدة من المناطق الزراعية الأكثر إنتاجاً في العالم). موضحاً أن هناك نضالا تاريخياً حول مياه النيل بين أثيوبيا ومصر، حيث كانت البلدين على علاقة طويلة من الانسجام والتنافر، نتيجة للقضايا الدينية بعد إضفاء الطابع المؤسسي على العلاقة الثقافية بين القاهر وأديس أبابا، عندما تم تعيين أسقف للكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية من قبل البطريرك المصري في الإسكندرية، وغالباً يكون هذا التعيين تحت تأثير الحكومة المصرية وعدم قدرة أثيوبيا على تعيين أسقفها منذ فجر التاريخ، حتى عندما تم الفتح الإسلامي لمصر عام 640 ميلادية وضعت إثيوبيا المسيحية في موقف دفاعي، لأن الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية ظلت تابعة للكنيسة الأرثوذكسية المصرية بالإسكندرية، ومصر أصبحت بلداً مسلماً، ومن وقتها استاء الأثيوبيين من سيطرة مصر على تعيين أسقف مسيحي خاص بهم، فضلاً عن وقتها كان يسيطر المصريون أيضاً على القدس، وهكذا ربطت أثيوبيا علاج أزمة النيل بتخلي مصر عن الكنيسة الأثيوبية. الصراع بين مصر وإثيوبيا سيظل متواصلا - حسب رأي د. نادر نور الدين أستاذ الأراضي والمياه بجامعة القاهرة - وغالباً يكون صراعاً بالوكالة بين المسيحيين والمسلمين على المناطق الحدودية شمال أو جنوب شرق أثيوبيا، فمثلاً في القرن التاسع عشر خاضت مصر وإثيوبيا صراعاً من أجل السيطرة على البحر الأحمر وحوض النيل العليا، وجاءت ذروته في عام 1876 في معركة جورا بأريتريا، حيث تلقى الجيش المصري هزيمة قاسية من الجيش الأثيوبي لعدم تمكنه من إدارة المعركة في الجبال والمنحدرات الصحراوية، لافتاً إلى أن الصراعات الاستعمارية كانت عصر جديد على النيل، وأضافت التعقيد الهائل على هذا الصراع، وبعد استعمار مصر من قبل إنجلترا في عام 1882، إثيوبيا هزمت الإيطاليين في معركة عام 1896 لتصبح الدولة الأفريقية الوحيدة التي تحافظ على استقلالها، خلال التدافع الأوروبي من أجل أفريقيا، ولكن الاستعمار خلق العديد من دول جديدة في حوض النيل منها (أوغندا، رواندا، بورونديوكينيا)، وانطلقت المنافسة الجديدة على الموارد المائية والأراضي، وبالتالي في أواخر القرن التاسع عشر كانت السيطرة على دول منبع النيل هدفاً للقوى الاستعمارية الكبرى، وفهم الأوروبيون قليلاً عن نهر النيل أن معظم المياه تأتي من البحيرات الاستوائية (فكتوريا، ألبرت وكيوجا وإدوارد)، وعمل الإنجليز على خطط لزيادة تدفق المياه، فأنشأوا قناة "جونقلي" في وقت لاحق، ومن هنا بدأ التفاوض وإبرام المعاهدات والاتفاقات على مياه النيل خلال الحقبة الاستعمارية، ومع استقلال الدول تم الانتهاء من اتفاق مياه النيل عام 1959 بين مصر والسودان قبل تحقيق جميع دول النهر للاستقلال اللازم للتفاوض، وتم تخصيص 55 مليار متر مكعب إلى مصر سنوياً، بينما سمح للسودان ب 18.5 مليار متر مكعب، كما سمحت المعاهدة أيضاً ببناء سد أسوان العالي (أنجز في عام 1971 )، وسد الروصيرص (أنجز عام 1966 على النيل الأزرق في السودان، وهذه المعاهدة أثرت سلباً على دول النهر، وطالبوا لاحقاً بعد حصولهم على الاستقلال بتعديل الاتفاقية وأنهم غير ملزمين بالتقيد بالمعاهدات التي وقعت نيابةً عن شعوبهم من قبل دول الاحتلال، ومع ذلك تتمسك القاهرة والخرطوم بهذه الاتفاقيات، مؤكداً أن استبعاد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لإثيوبيا في اتفاقية مياه النيل وفي التخطيط لبناء سد أسوان، شرعت أثيوبيا في رد الصفعة إلى ناصر، من خلال التخطيط لبناء عدة سدود على النيل الأزرق وروافده، بحوالي 10 مليون دولار من الخزينة الأثيوبية، لكن ناصر شجع إريتريا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بالانفصال عن إثيوبيا، كما شجع الصوماليين لتحرير إقليم أوغادين في إثيوبيا، وبعد سنوات من الخطاب العدائي بين البلدين، تراجعت لغة التهديد بعد مجيء الرئيس المصري حسني مبارك والرئيس الأثيوبي منغستو هايلي، لتصعد لغة أخرى مع الكلمات من التوفيق والتعاون. وأضاف د.مغاوري شحاتة رئيس الجمعية العربية للمياه، أن الرئيس السابق حسني مبارك ضاعف جهوده مع الطرف الأثيوبي لزيادة كميات المياه الواردة إلى القاهرة، بعد إطلاق مشروع قناة توشكى التي تعد واحدة من أهم مشاريع الري في العالم، وخطة القناة كانت تعتمد على استغلال 10٪ من المياه في بحيرة ناصر لري الصحراء الغربية الرملية في مصر، لكن هذا النقص كان لابد أن يقابله تعويض مائي وإدخال تعديلات على معاهدة 1959 التي سمحت لمصر بالحصول على 55 مليار متر مكعب، لكن أديس أبابا رفضت واحتج ملس زيناوي رئيس الوزراء الأثيوبي قائلاً: "إذا كانت مصر تريد أن تأخذ مياه النيل لتحويل الصحراء إلى شيء أخضر، فنحن في إثيوبيا لا نستطيع إطعام أنفسنا وعلى الجميع التنازل لتعديل الاتفاقية بين جميع الدول"، وهو ما رفضته القاهرة وضاع حلم المشروع، لافتاً إلى أن قانون المياه الدولي لم يحسم الخلافات حول تقسيم مياه النيل وتصفية الأجواء الخلافية بين جميع البلدان المتضررة، لكن مصر والسودان ظلا متمسكين بحقوقهما التاريخية وعدم الاستجابة لمطالبات دول النهر العلوي، وهو ما شجع أثيوبيا في عام 2010، من الحصول على توقيع ست من دول المنبع (إثيوبيا،كينيا، أوغندا، رواندا، بوروندي وتنزانيا) على الاتفاق الإطاري التعاوني تحت مسمى (اتفاقية عنتيبي) للحصول على مزيد من حصص المياه، ورفضت مصر والسودان الاتفاق لأنه تحدى حقوق المياه التاريخية، حتى شرعت بمفردها في بناء سد النهضة الأثيوبي أحد أكبر السدود الضخمة التي سيكون لها آثار بيئية هائلة و غير متوقعة على مصر، مثل انخفاض الإنتاجية الزراعية والأرصدة السمكية، كما يسبب سلسلة من الأحداث الزلزالية، نظراً لحجب كميات هائلة من المياة خلفه تقدر بنحو 67 مليار متر مكعب في بحيرة تانا، بالإضافة إلى تقليل منسوب المياه في بحيرة ناصر التي تعتبر واحدة من أكبر الخزانات في العالم، ولذلك فإن المفاوضات الجارية من قبل الحكومة المصرية مع أديس أبابا لا تعدو عن كونها وقت ضائع بين جميع الأطراف. ويرى د.ضياء القوصي مستشار وزير الموارد المائية السابق، أن مصر ستظل متمسكة بجلوس جميع أطراف دول حوض النيل على مائدة المفاوضات من أجل التوصل إلى اتفاق يرضي الجميع، نظراً لأن القضية لن تحل إلا من خلال مبدأ الفائدة والمكسب والربح وليس التمسك بالحقوق التاريخية، مؤكداً أن خيارات إثيوبيا للتنمية الاقتصادية محدودة، كونها مع ما يقرب من 90 مليون شخص بلد غير ساحلي وواحدة من أفقر بلدان العالم –حسب مؤشر الأممالمتحدة للتنمية البشرية عام 2012-، فضلاً عن أن أثيوبيا تقوم بتأجير الأراضي في المناطق الجنوبية للمملكة العربية السعودية والهند والصين لإقامة المشاريع الزراعية، لأنها لا تملك الأموال لتطوير هذه الأرض من تلقاء نفسها، بجانب وجود نقص حاد في الأراضي الشمالية، ولذلك لا يمكن لأثيوبيا الاستمرار في استخدام الارتفاعات المائية والأمطار الموسمية لتوليد الطاقة الكهرمائية والري، ومن هنا تولدت فكرة إنشاء سد النهضة الكبرى، لكن يظل التمويل المالي عقبة رئيسية أمام استكمال المشروع، ورغم منح البنك الدولي وبنك الاستثمار الأوروبي، وبنك الاستيراد والتصدير الصيني، وبنك التنمية الأفريقي جزءاً من القروض اللازمة للتمويل، لكن تظل المخاوف حول الأثر البيئي والسياسي عقبة أمام المقرضين، ومع ذلك تصر الحكومة الإثيوبية أنها ستلتزم مع جدولها الزمني وتمويل المشروع محلياً للانتهاء منه نهاية عام 2015، كونهم يعتقدون أن السد الجديد سيكون مصدراً للطاقة الكهرومائية للمنطقة بأسرها، لكن عليهم أولاً التفكير في مفهوم ما سيحدث خلف السد الكبير بعد أن يتم تعبئة الخزان، وعندما ينخفض تدفق مياه النيل بنسبة 25٪ لمدة ثلاث سنوات أو أكثر وتأثير ذلك على شعوب مصر والسودان، وأيضاً ماذا سيحدث عندما تفشل الأمطار في المرتفعات الأثيوبية من تعويض هذا الفاقد، وإذا كانت مسألة مياه النيل حساسة في قرون قبل عام 1900، عندما كان مجموع إثيوبيا ومصر السكاني لا يتجاوز 10 مليون نسمة أو أكثر قليلاً، ماذا سيحدث خلال السنوات العشرين المقبلة؟، في الوقت الذي يتجاوز فيه سكان البلدين في الوقت الحالي 180 مليون نسمة، كما يصل مجموع السكان الجماعي لدول حوض النيل نحو 600 مليون نسمة، مؤكداً أن سد النهضة يطرح سؤالاً أساسياً، من يملك النيل؟ عندما يغلق سد النهضة أبوابه على نهر النيل الأزرق وأمام دول المنبع، سواء كان ذلك في عام 2015 أو عام 2025، وسوف يكون الوقت لتصفية الحساب النهائية قد وصلت إلى ذروتها، وفي سياق التاريخ الصعب بين مصر وأثيوبيا سيكون العنف احتمالا قائماً، ولا يمكن أن تتحقق حلول جيدة للجميع من خلال الدبلوماسية والقيادة.