تحدثنا في المقال السابق عن المؤشرات الاقتصادية التي علي أساسها صُنفت مصر باعتبارها دولة فاشلة في عهد نظام مبارك، وقد استعرضنا المؤشرات الاجتماعية والمؤشر التقييمي الاقتصادي الذي علي أساسه ترصد مؤسسات الاممالمتحدة والمؤسسات الدولية الاخري عوامل فشل وانهيار نظام وهنا سنستعرض الوضع السياسي الذي علي أساسه صُنفت مصر باعتبارها دولة فاشلة: المؤشرات السياسية: فقدان شرعية الدولة «إجرام الدولة، فساد النخبة الحاكمة، وغياب الشفافية والمحاسبة السياسية، وضعف الثقة في المؤسسات وفي العملية السياسية ما يكثر مقاطعة الانتخابات وانتشار التظاهرات والعصيان المدني.. وذيوع جرائم ترتبط بالنخب الحاكمة..» إن هذا المؤشر ليكاد يكون أوضح المؤشرات وأكثرها عمقاً وظهوراً في مصر الحديثة، فمصر التي يحكمها الحزب الأوحد، منذ ثلاثة عقود، ويتهم هذا الحزب غالباً من قبل مؤسسات دولية بتزوير الانتخابات، وقمع الاحزاب الاخري، ومنع الدعم عنها، والوصول بمصر إلي حالة «الانسداد السياسي» وما اعتري رموزه من فساد ضارب في فضائحهم وسقوطهم أمام الرأي العام في قضايا وفضائح اخلاقية أو قضايا فساد، ثم تبرئتهم وإلقاء التهم علي جهات اخري أو تحميل القضايا لأطراف اخري، أفقد الانسان المصري الثقة في هذا النظام وهذا الحزب الأوحد الذي ليس له شعبية في الشارع المصري، بل إن تنُفذه وسيطرته وسطوته علي مقدرات الحركة السياسية والحزبية في مصر هي أحد المرتكزات الرئيسية لإهمال الانسان المصري المشاركة السياسية أو الاهتمام بقضايا العالم والانخراط في متابعته ومعرفة موقع بلده منه، وهو موقع للأسف مُتأخر. تتصاعد معاناة ما يقرب من ثمانين مليوناً من المصريين، يعيش أكثر من ثلاثة أرباعهم تحت حد الفقر، وتعاني أغلبيتهم أزمات طاحنة في السكن والتعليم والعلاج والانتقال والعمل ومواجهة المخاطر البيئية، فضلاً عن مشاق توفير الحد الأدني من احتياجات المعيشة الآدمية كالخبز ومياه الشرب وما شابه. وتغرق البلاد في الديون «حسب النشرة الإحصائية للبنك المركزي المصري لشهر مايو 2008، بلغ إجمالي الدين المحلي 670 مليار جنيه، جري تدوير الارقام والدين الخارجي أكثر من 32 مليار دولار، والتضخم الذي بلغ 14 في المائة وفقاً لاسعار المستهلكين و24 في المائة وفقاً لاسعار المنتجين، وتعاني تداعيات انهيار مؤسسات الخدمة الرسمية في كل نواحي الحياة، وتعم الفوضي الشارع المصري، ويعجز النظام حتي عن تنظيف الشوارع من القمامة، ناهيك عما هو أعظم من مهمات ومسئوليات، وفي مقدمتها حماية الأمن المنفلت، ووضع حد لظواهر البلطجة والاعتداء علي الابرياء، والتعذيب «المنهجي» في أقسام البوليس وسجون النظام ومعتقلاته، الذي تغص بتفاصيل ممارساته البشعة صفحات الجرائم وملفات منظمات المجتمع المدني وحقوق الانسان، وتضاعفت معاناة الملايين من المصريين إلي درجة غير مسبوقة، تتجاوز قدرتهم المشهودة علي الصبر والاحتمال وطول البال دون أن يبدو ولو ضوء طفيف، في آخر النفق، وهكذا أصبحت قضية «التغيير» والبحث عن «بديل» ملحة مطروحة بداية وسط النخبة المسيسة والمثقفة التي خرجت تعبيراً عن تطلعاتها حركة «كفاية» منذ أواخر عام 2004 رافعة شعار «لا للتمديد، لا للتوريث» ثم بدخول «الجماهير الغفيرة» من العمال والفلاحين، وقطاعات البرجوازية الصغيرة، وشرائح الطبقة الوسطي المتدهورة الاحوال، والمعدمين، إلي ساحة النزال، بشكل غير مسبوق، حيث تعدت اشكال التحركات الاحتجاجية الألف خلال العام الاخير وحده! التدهور الحاد في تقديم الخدمات العامة «ألا تؤدي الدولة وظائفها الجوهرية مثل حماية الناس، والصحة والتعليم والتوظيف، تمركز الموارد بالدولة في مؤسسات الرئاسة وقوات الأمن والبنك المركزي والعمل الدبلوماسي..» الحرمان من التطبيق العادل لحكم القانون وانتشار انتهاكات حقوق الانسان «الحكم العسكري، وقوانين الطوارئ، والاعتقال السياسي، والعنف المدني، وغياب القانون، وتقييد الصحافة، وخوف الناس من السياسة..». إن مصر تحولت عبر ثلاثين عاماً إلي دولة قمعية بامتياز، دولة بوليسية تري في العمل الأمني المعتمد علي قمع الحريات وكبتها وضرب الحركات المدنية، حلاً لكل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تواجهها، كان المحرك الرئيسي لذلك هو قانون الطوارئ الذي لا يزال البلد يعيش في اثاره منذ 29 سنة، وشيئاً فشيئاً تخلت الدولة عن أهم أسس قيامها وهي السيطرة علي المصالح والخدمات والانتاجية ودعم المواطن، حتي صار تعبير «الحكومة» مقترناً لدي الانسان المصري بمفاهيم كثيرة مثل القمع، والفساد! إن الازمة الاقتصادية، والغذائية بالتحديد، التي تضرب المجتمع المصري بقسوة هائلة، ستزداد تعقيداً بسبب الاوضاع العالمية، والسياسة النيوليبرالية التي تصر السلطة علي التمسك بها رغم علامات فشلها الأكيد، وضعت السلطة أمام خيار وحيد: تصعيد حالة القمع، والمواجهة العنيفة لكل فئات المجتمع وطبقاته، ومن المعتاد الآن أن تتحول شوارع العاصمة والمدن الكبري إلي ثكنات عسكرية، ومن الطبيعي في مثل هذه الظروف أن تتزايد أعداد المجندين في «الأمن المركزي» الموكل إليه مهمة السيطرة علي الاوضاع الامنية في البلاد، حتي تجاوزت جحافله أعداد القوات المسلحة العاملة بمرات «اخر رقم يشير إلي أن عدد جنود الأمن المركزي بلغ مليوناً وأربعمائة الف» ولما كانت قوات الامن المركزي يتم اختيار افرادها من غير المتعلمين فهذا يؤكد مدي العمي الذي وصلت إليه السلطة في مصر التي تخلت عن شرعية العمل الدستوري لصالح المواطن ولجأت إلي الحل الفاسد وهو القمع. وسنستعرض بقية المؤشرات علي الفساد السياسي وفشل الدولة سياسياً في مقال قادم. ------- شاعر مصري مقيم في الخارج