شيخ الأزهر يستقبل سفير سلطنة عمان بالمشيخة    العروض الجوية تُزين سماء مصر من طلبة الأكاديمية والكليات العسكرية 2024    رئيس الطائفة الإنجيلية يشهد احتفال المستشفى الأمريكي بطنطا بمرور 125 عامًا على تأسيسها    وزراء "الصحة" و" العدل" و" التضامن" يشيدون بمركز استقبال الأطفال    مع قراء «الأخبار»    البنك المركزي يعلن ارتفاع الاحتياطي النقدي الأجنبي لمصر إلى 46.7 مليار دولار    وزير النقل: نتفاوض مع «سكك حديد ألمانيا» لإدارة شبكة القطار الكهربائي السريع    ضابط لبناني واثنان آخران شهداء غارات إسرائيلية على لبنان    الأهلي في اجتماع فيفا وثلاثي القطبين خارج المغرب والأحمر يتوج ببرونزية مونديال اليد| نشرة الرياضة ½ اليوم 3-10-2024    في 6 أشهر فقط.. القيمة السوقية ل وسام أبو علي تتضاعف    إصابة 10 أشخاص في حادث تصادم سيارتين بأسوان    الخريف.. فصل الجمال والتغيير الطبيعي    الأوبرا تحتفل بانتصارات أكتوبر    حكم صلة الرحم إذا كانت أخلاقهم سيئة.. «الإفتاء» توضح    أضف إلى معلوماتك الدينية| فضل صلاة الضحى    فحص 520 حالة ضمن قافلة طبية لجامعة المنيا في مركز العدوة    افتتاح المؤتمر الدولي لجراحة الأوعية الدموية لمناقشة الجديد فى الأمراض الوعائية    مدرب منتخب فرنسا يكشف سبب استبعاد مبابي    لطفي لبيب عن نصر أكتوبر: بعد عودتي من الحرب والدتي صغرت 50 سنة    بشرى سارة للأهلي.. فيفا يصدر قرارات جديدة بشأن الأندية المشاركة في كأس العالم للأندية    سفير السويد: نسعى لإقامة شراكات دائمة وموسعة مع مصر في مجال الرعاية الصحية    مصرف «أبو ظبي الإسلامي- مصر ADIB-Egypt» يفتتح الفرع ال71 بمدينتي    إصابة شاب بسبب خلافات الجيرة بسوهاج    «ينفذ يناير القادم».. «الرعاية الصحية» توقع برنامج توأمة مع مستشفيات فوش الفرنسية    وزارة الطوارئ الروسية تعيد من بيروت 60 مواطنا روسيا    تأهل علي فرج وهانيا الحمامي لنصف نهائي بطولة قطر للإسكواش    رسميًا.. انتهاء أزمة ملعب قمة سيدات الزمالك والأهلي    العرض العالمي الأول لفيلم المخرجة أماني جعفر "تهليلة" بمهرجان أميتي الدولي للأفلام القصيرة    كيف تحجز تذاكر حفل ريهام عبدالحكيم بمهرجان الموسيقى العربية؟    باحث: الدولة تريد تحقيق التوزان الاجتماعي بتطبيق الدعم النقدي    الرئيس السيسي يستقبل رئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان بمطار القاهرة    «القاهرة الإخبارية»: بريطانيا تستعد لإجلاء رعاياها في لبنان برا وبحرا    تعديلات قطارات السكك الحديدية 2024.. على خطوط الوجه البحرى    الهيئة تلزم صناديق التأمين الحكومية بالحصول على موافقتها عند نشر أية بيانات إحصائية    تعرف على إيرادت فيلم "إكس مراتي" بعد 10 أسابيع من عرضه    منها «الصبر».. 3 صفات تكشف طبيعة شخصية برج الثور    وزيرا الرياضة والثقافة يشهدان انطلاق فعاليات مهرجان الفنون الشعبية بالإسماعيلية    وزارة التعليم: التقييمات الأسبوعية والواجبات المنزلية للطلاب مستمرة    «أوقاف مطروح»: توزع 2 طن لحوم و900 شنطة مواد الغذائية على الأسر الأولى بالرعاية    تعدد الزوجات حرام في هذه الحالة .. داعية يفجر مفاجأة    محافظ الغربية يبحث سبل التعاون للاستفادة من الأصول المملوكة للرى    أوكرانيا تهاجم قاعدة جوية روسية في فارونيش بالطائرات المسيرة    بيراميدز يخوض معسكر الإعداد فى تركيا    اتفاق بين منتخب فرنسا والريال يُبعد مبابي عن معسكر الديوك في أكتوبر    فروع "خريجي الأزهر" بالمحافظات تشارك بمبادرة "بداية جديدة لبناء الإنسان"    لطفي لبيب يكشف عن سبب رفضه إجراء جلسات علاج طبيعي    الأمن يكشف لغز العثور على جثة حارس ورشة إصلاح سيارات مكبل في البحيرة    مجلس الشيوخ.. رصيد ضخم من الإنجازات ومستودع حكمة في معالجة القضايا    أمين الفتوى يوضح الفرق بين الحرص والبخل    أحد أبطال حرب أكتوبر: خطة الخداع الاستراتيجي كانت قائمة على «الصبر»    وزير الخارجية السعودي: لا علاقات مع إسرائيل قبل قيام دولة فلسطينية مستقلة    ضبط 17 مليون جنيه حصيلة قضايا اتجار بالنقد الأجنبي خلال 24 ساعة    الصحة: تطعيم الأطفال إجباريا ضد 10 أمراض وجميع التطعيمات آمنة    نائب وزير الصحة يوصي بسرعة تطوير 252 وحدة رعاية أولية قبل نهاية أكتوبر    مركز الأزهر للفتوى يوضح أنواع صدقة التطوع    بالفيديو.. استمرار القصف الإسرائيلي ومحاولات التسلل بلبنان    الحالة المرورية اليوم الخميس.. سيولة في صلاح سالم    أستون فيلا يعطل ماكينة ميونخ.. بايرن يتذوق الهزيمة الأولى في دوري الأبطال بعد 147 يومًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصر بعد مبارك

في الرابع والعشرين من نوفمبر 2008 صدرعن جامعة برينستون الأمريكية كتاب بعنوان «مصر بعد مبارك: الليبرالية والإسلام والديمقراطية في العالم العربي» وقد لفت نظري إلي هذا الكتاب آنذاك عدة أمور أهمها أنه يؤكد علي أن العالم يستعد، منذ سنوات، لمرحلة ما بعد مبارك، وعلي أن هذا الاستعداد بدأ من داخل كثير من المؤسسات المصرية الرسمية والشعبية المهمة. أدرك العالم منذ سنوات، إذن، ضرورة التغيير ولم تدركها مؤسسة الرئاسة والمعبرون عنها. والرؤية التي يعرض لها مؤلف هذا الكتاب بروس تضع الإسلام السياسي، وخاصة الإخوان المسلمين، في مركز الصدارة بين القوي التي تعمل علي التغيير، وهذا مالا نوافقه عليه، وهو أيضا ما أثبتت عكسه انتفاضة الخامس والعشرين من يناير.
لكن هذه الرؤية لا تمضي إلي حد الانجراف إلي الرأي الشائع في كثير من الأوساط الإعلامية والأكاديمية التي كانت - ولاتزال - تعتبر أن السماح للإخوان بموقع بين الأطراف المحاورة للسلطة في مصر يعني أن البلاد تتجه صوب خومينية جديدة أو صوب أردوغانية جديدة. وينعكس التوازن لدي راذرفورد فيما انتهي إليه الكتاب من أن قوي المعارضة العلمانية والدينية، علي السواء، تنتهج طريقا وسطا يمكن أن يفضي بمصر إلي شكل غير مسبوق من الليبرالية المسلمة، بل ربما يصل الأمر إلي ديمقراطية مسلمة.
- مؤشرات إلي النهاية
ويعتبر الكتاب أن تصويت البرلمان المصري بأغلبية ساحقة، كما هو معتاد منذ 1957 ، لصالح تجديد العمل بقانون الطوارئ في الثلاثين من نوفمبر2006 جاء في سياق مؤشرات واضحة إلي تصدعات قوية آذنت بنهاية تلك الحقبة من تاريخ البلاد. لقد بدأ العمل بقانون الطوارئ في1967 ولم يعطل إلا لفترة وجيزة من15 مايو 1980 إلي 6 أكتوبر1981 ومنذ عاد العمل بذلك القانون السيئ السمعة وهو يحوز موافقة البرلمان الخاضع لسيطرة الحزب الحاكم. لكن إقرار البرلمان بتمديد العمل به في 2006 كان نذير شؤم.
فالموافقة هذه المرة لم تكن انتصارا مؤزرا للرئيس مبارك كما كان يحدث من قبل. ففي الرابع والعشرين من يناير، أي قبل التصويت لصالح قانون الطوارئ بعدة أشهر، صدرحكم من المحكمة الدستورية العليا يقلص، علي نحو ملحوظ، قدرة الرئيس علي استخدام قانون الطوارئ للافتئات علي حقوق الملكية الخاصة للمواطنين، ويوجه اللوم لرئيس الحكومة علي اللجوء لقانون الطوارئ علي نحو ينتهك الحقوق الدستورية للمواطنين. واعترضت منظمات أهلية عديدة، كانت بينها جماعة الإخوان المسلمين، ومطبوعات وقنوات فضائية مصرية غير حكومية علي قانون الطوارئ الذي خرج المتظاهرون إلي الشوارع للاحتجاج عليه مرات عديدة.
وكان واضحا للمراقب المدقق آنذاك أن الموقف السياسي في البلاد ينطوي علي تناقض واضح.
فالنظام المتسلط ينعم باستقرار واضح ويدعم مركزه بمزيج من أدوات العمل القانونية والمتجاوزة للقانون، وفي الوقت ذاته فالبلاد تملك قضاء قويا مفعما بالحيوية وقادرا علي الحد، نسبيا، من تسلط النظام ليس في ساحات المحاكم فحسب ولكن أيضا في نادي القضاة الذي يجابه السلطة التنفيذية الجائرة ويعمل بقوة لحشد التأييد للتوجهات الإصلاحية. وكذلك فإن منظمات المجتمع المدني، التي يعتبر المؤلف أن جماعة الإخوان المسلمين هي أقواها نفوذا وتأثيرا علي الشارع، أظهرت معارضة قوية للتسلط.
ويرد راذرفورد علي أولئك الذين كانوا يعتبرون وقت صدور الكتاب في 2008 - أن كل حركة سياسية خارج النظام هي حركة غير ذات شأن بقوله إن ما حدث في مصر منذ تسعينيات القرن الماضي أدي إلي أن يصبح «النظام الدولتي» الذي أسسه عبدالناصر غير فعال بعد أن نالت منه الأزمات الاقتصادية وبعد إعادة هيكلة الاقتصاد والاندماج في النظام العولمي. وقد تجلت هذه التحولات في تراجع دور القطاع العام ونظام الدعم. كل هذا أضعف الأساس الإيديولوجي الذي قامت عليه الدولة منذ .1952
فهل يعني ذلك أن الدولة المصرية منذ التسعينيات تتواري وتغرب شمسها؟ بالقطع لا، لكنه يعني أن الدولة لم تعد مهيمنة علي الاقتصاد وهذا يوفر الفرصة لظهور أيديولوجيات ومؤسسات جديدة أهمها بنظر المؤلف نمو مفاهيم ليبرالية في مؤسسة القضاء وانتشار مبادئ الحكم الليبرالي بين كل القوي المعارضة وفي صفوف الإسلاميين، بل بين قطاع واسع من رجال الأعمال وبعض العناصر المهمة في الحزب الوطني. وهذا يعني أن مصر تمضي باتجاه تعميق الليبرالية وربما الديمقراطية أيضا.
- الليبرالية والديمقراطية
وهنا لابد أن نشير إلي الفارق بين الليبرالية والديمقراطية. ويطرح علماء السياسة أفكارا كثيرة للتمييز بين الاثنتين، لكن يكفي هنا أن نقول إن تركيز الليبرالية علي الحريات الفردية يعني أن المؤلف يتوقع أن تشهد مصر بعد مبارك حماية أكثر فعالية للمواطن ضد مختلف أنواع القمع، مثل الاعتقال والتضييق علي المعارضة وعلي الأقليات السياسية والدينية والعرقية، ومزيدا من تحصين الملكية الفردية ضد اعتداءات أجهزة الدولة أو أصحاب النفوذ، ومزيدا من حرية ممارسة الحقوق السياسية بتسهيل إجراءات الترشح والانتخاب وتشكيل الأحزاب وإنشاء الصحف، وهذا ما رأي المؤلف أن مصر تمضي باتجاه تحقيقه. أما التطور نحو الديمقراطية، وهو ما يعتبره راذرفورد واردا وإن لم يكن بالدرجة ذاتها فهو تطور نحو مرحلة سيادة القانون الحامية للحريات، حيث يمكن أن تتحقق السيطرة غير المباشرة التي يمارسها المواطن علي الحكومة عبر صندوق الانتخاب. ويضيف المؤلف: إن مزيدا من الحريات الليبرالية يمكن، بالتراكم, أن يفضي إلي نظام ديمقراطي.
ويضرب المؤلف أمثلة علي فعالية القضاء في الدفع بالبلاد باتجاه مزيد من الحريات مشيرا إلي أن المحاكم المصرية حكمت مرتين بحل البرلمان ومثلت عبئا علي من زوروا الانتخابات ومنحت شهادات ميلاد لاثني عشر حزبا وألغت قرارات حكومية بتعطيل صحف معارضة. وفي المقابل فقد نزعت منظمات حقوقية كثيرة الشرعية عن كل انتهاك للحريات وعن كل فساد، لكن المؤلف لا يري بين منظمات المجتمع المدني التي فعلت ذلك من هو أهم من الإخوان المسلمين.
لكننا نتفق مع المؤلف علي وجود قوتين صاعدتين في المجتمع المصري، هما القضاء والمجتمع المدني إضافة إلي قوي أخري نشير إليها فيما بعد، وإن اختلفنا معه علي الوزن النسبي للإخوان المسلمين كقوة تقف ضمن قوي التغيير. ونضيف إلي ذلك أن هاتين القوتين سوف يتعين عليهما أن تخضعا لشروط التحالف الذي اتخذ صورة جديدة وحداثية بين الجيش والقوي الشعبية العاملة عموما والشبابية خصوصا منذ 25 يناير الماضي هذا التحالف الذي يمضي بالبلاد الآن نحو تاريخ جديد.
والأفق الجديد الذي استشرفه راذرفورد في كتبه هذا وتبشر به التطورات الراهنة هو أننا بسبيلنا إلي الخروج من المربع الذي وقفت فيه الإصلاحات التي شهدتها جميع دول المنطقة، منذ نهاية الحرب العالمية إلي اليوم، حيث كانت التحولات الاجتماعية والاقتصادية تحتل أولوية مطلقة لدي قادة المشرق العربي وكان قادة العالم كله يساندون ذلك، خاصة أن دولة الرفاة المعنية بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية علي السواء، ظهرت في أوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
--
ونضيف نحن أن السباق علي تلبية المطالب الجماهيرية كان علي أشده حتي قبل الحرب العالمية الثانية بين روسيا السوفيتية بقيادة ستالين وألمانيا النازية بقيادة هتلر والولايات المتحدة بقيادة روزفلت الذي يعتبره كاتب هذه السطور الصورة الأصلية لزعامة جمال عبدالناصر في المشرق العربي في ظل هذه النظم من روسيا السوفيتية حتي مصر الناصرية مرورا ببريطانيا العمالية وفرنسا الديجولية كانت تلبية لاحتياجات الجماهير الاجتماعية والاقتصادية تحتل مكانة تسبق الليبرالية السياسية ويذكرنا المؤلف بمساندة الولايات المتحدة للنظم المستبدة منذ تدخلت لإعادة الشاه إلي عرشه في 1953 وكان الخوميني الشاب قائدا تنفيذيا صريحا للتحركات الأمريكية ضد الديمقراطية الإيرانية آنذاك، وحتي تحالف الولايات المتحدة مع أبشع طغاة المنطقة وهو صدام حسين في الثمانينيات، بحجة الرغبة في لجم الطموحات الإقليمية للنظام الخوميني، كما زعم وزير الخارجية الأمريكي أيامها جورج شولتز.
--
وحتي نهاية الثمانينيات كانت الفلسفة التي بررت للولايات المتحدة والغرب الصناعي من ورائها مساندة الاستقرار علي حساب الإصلاح السياسي في المشرق العربي تنحصر في ثالوث المصالح المعلنة: تدفق النفط وحماية إسرائيل واحتواء النفوذ السوفيتي، ومع انهيار الاتحاد السوفيتي حل محله مبرر رابع وهو احتواء الإسلام الشيعي، ممثلا في إيران، والسني ممثلا في صدام حسين الذي سارع إلي كتابة عبارة الله أكبر علي العلم العلماني للبلاد. وهو علم علماني لأنه ينتمي لمجموعة أعلام الثورة الفرنسية الثلاثية الألوان. كما سارع صدام إلي إعلان أنه من نسل الحسين بن علي وهذه تطورات تدعو للعجب. وسمعت أيامها سياسيا بريطانيا يشير إلي صدام باعتباره إسلاميا متطرفا، ومدي علمي أنه بعثي علماني قد يكون ملحدا!!
- حماس فاتر
وطوال التسعينيات ظلت السياسة الخارجية الأمريكية فاترة الحماس فيما يتعلق بالتطور نحو الديمقراطية حريصة علي عدم الخلط بين ثالوث المصالح المعلنة وبين مبدأ نشر الديمقراطية.
وكان لهذا الفتور أثره الواضح علي العلاقات مع مصر مبارك، فقد وصلت المعونات المقدمة من واشنطن للقاهرة من عام1975 حتي 2007 اثنين وستين مليار دولار لم تستخدم للضغط من أجل إصلاحات ديمقراطية ولم يكن هذا إلا استمرارا لموقف أمريكي قديم للولايات المتحدة التي قالت بعد وصول ناصر للسلطة إن الشعب المصري غير جاهز للديمقراطية وأن الديمقراطية قد تخلق فوضي يستفيد منها الشيوعيون.
ورغم أن التقارير الدورية المنتظمة الصادرة عن الخارجية الأمريكية منذ التسعينيات انتقدت انتهاك إدارة مبارك لحقوق الإنسان ووقائع التعذيب، وطالبت بقدر أوفر من الحكم النيابي القائم علي انتخابات نزيهة، فقد ظل التفاهم بين القاهرة وواشنطن يستند الي أن ثالوث المصالح الأمريكية المشار إليه أهم من أي إصلاح ديمقراطي لكن ما جري في 2001 من هجوم علي نيويورك وواشنطن ساعد علي ظهور سياسة جديدة تطورت ببطء حتي ظهر في 2007 إجماع بين الديمقراطيين والجمهوريين علي أن الديمقراطية وحدها هي التي تؤمن استقرار النظم الحليفة للولايات المتحدة.
هنا نجد راذرفورد يولي التطورات علي الساحة الأمريكية اهتماما أكبر مما أولاه التطورات السياسية في مصر التي شهدت طوال التسعينيات زحفا متواصلا نحو الحرية التي سمح بها النظام فساندته وحشدت المجتمع وراءه في حربه المظفرة ضد عصابات الأصولية المسلحة.
ويعتبر كاتب هذه السطور أن النخب المثقفة المعادية للأصولية كانت الشريك الأصغر للدولة في حربها ضد الأصوليين في مرحلة تمردهم المسلح، وحرص الدولة علي إبقاء شركائها هؤلاء في مرتبة الشريك الأصغر ساعد علي تسهيل قبول هذه النخب لكل من عارض النظام بما في ذلك الإخوان المسلمون لخلق جبهة عريضة تطالب بالديمقراطية، وهذه التطورات سبقت تحول النخبة الأمريكية من لغة المصالح التقليدية إلي رؤية الاستقرار علي النحو الذي تراه به النخب المثقفة وقيادات المعارضة والمنظمات الأهلية المصرية، رغم أنها كلها تقريبا ظلت واقفة في حدود الدائرة التي رسمها لها النظام دائرة القول دون الفعل حتي الخامس والعشرين من يناير الماضي.
وقبل أن يصل المؤلف إلي دور القوي المستقلة والحزبية في تهيئة الأجواء لتحول نحو الديمقراطية فهو يؤكد علي أمرين وهما أن السعي الأمريكي الجاد إلي نشر الديمقراطية في العالم العربي كشرط لضمان مصالح الولايات المتحدة في المنطقة لم يحل محل الثالوث المصلحي العتيد ولكن طورت الديمقراطية هذا المثلث إلي مربع تمثل هي أحد أضلاعه. ويشير المؤلف أيضا إلي أن أوروبا وصلت إلي قناعة مشابهة وتبنت هي أيضا الدعوة إلي الديمقراطية في العالم العربي، وجمعت بين الموقفين الأمريكي والأوروبي عناصر من أهمها اعتبار الديمقراطية وحقوق الإنسان درعا يحمي الشرق الأوسط ومصالح الغرب فيه من الخطر الأصولي، واستخدام سلاح التمويل لدعم الديمقراطية.
الحداثة والتنمية ونوعية الحياة
وهذا يعكس اختلافا جوهريا وخطيرا عن النظرة التي تنظر بها النخب العربية إلي الديمقراطية باعتبارها شرطا للحداثة وتحسين نوعية الحياة للفرد وتأمين شروط تنمية حقيقية للمجتمع بعيدا عن الفساد الذي يحتمي بالقمع والاستبداد. وهنا تجد هوة عميقة تفصل بين العقل العربي الذي يعتبر الاستبداد انحرافا يرفضه الشعب، والعقل الغربي الذي يمثله المؤلف والذي يعتبر الاستبداد مرضا شرقيا يجب أن يعالجنا منه الغرب. لكن الدواء المطروح، وهوملايين الدولارات التي تتدفق من صناديق دعم الديمقراطية هو مصدر لعلل كثيرة أمرضت المجتمع المدني المصري وأضفت قدرا كبيرا من الشرعية علي القمع الذي تذرع به لضرب كل القوي الديمقراطية. لكن نقطة الخلاف الكبري بين المنظورين الغربي والعربي إلي الإصلاح السياسي تتمثل في إصرار الغرب علي دور محوري في عملية التحول الديمقراطي للإسلام السياسي وإصرار النخبة والشارع في مصر ممثلة للثقافة العربية علي تأمين مدخل آمن للإخوان المسلمين إلي ساحة الشرعية ضمن بقية القوي السياسية وليس كقوة محورية ما داموا ملتزمين بدولة مدنية.
---
إذن فالكتاب يري مستقبلا لليبرالية وربما للديمقراطية في مصر وهو ما أكدته القوي الشعبية منذ الخامس والعشرين من يناير. لكن هذا الكتاب المعبر عن وجهة نظر غربية سائدة منذ سنوات طويلة، يري أن ديمقراطية ما بعد مبارك ستكون ديمقراطية إسلامية، في حين طرحت الجماهير في انتفاضتها المطولة التي شملت جميع أنحاء البلاد تصورا علمانيا للديمقراطية يتسع لكل الطوائف وكل الطبقات التي تري في الديمقراطية حماية لها من الفساد والقمع.
ويري الكتاب أيضا أن التحول للديمقراطية بدأ منذ التسعينيات ونضيف أنه بدأ بعد انتصارنا علي عصابات التأسلم المسلحة ومع إعادة هيكلة الاقتصاد والتوجه نحو العولمة وهذه كلها توجهات لايزال الناس حريصين عليها ولكن في إطار المسئولية الاجتماعية للدولة ولرأس المال الخاص تماما كما هو الحال في الولايات المتحدة حيث تتبني إدارة أوباما - بايدن سياسات قد تبدو اشتراكية عند مقارنتها بسياسات إدارة بوش- تشيني.
ويعطي الكتاب أهمية بالغة للقضاء في الديمقراطية التي نحن في طريقنا إليها وهو ما يجعلنا نعتبر التحولات الراهنة مقدمة لتفعيل مبدأ سيادة القانون التي هي بدورها مقدمة لنضال سلمي من أجل الديمقراطية بقدر ما هي مدخل إلي عدالة اجتماعية وإلي تحويل الحريات المتاحة من مجرد هامش «للقول» إلي ساحة تتسع تدريجيا «للفعل» السياسي الحر.
--
وأخيرا فإن هذا الكتاب الذي صدر قبل ثلاث سنوات يري في العالم العربي، ولأول مرة في تاريخه، حركات محلية قوية تسعي للديمقراطية وتحظي بدعم دولي قوي. فقد أدي تحسين إجراءات تنظيم الانتخابات وأساليب رصدها والرقابة عليها إلي إدارة عمليات انتخابية أكثر نزاهة في بلدان مثل المغرب والجزائر والأردن ولبنان والكويت. كما أن استقلالية القضاء قويت وترسخت في مصر والكويت والمغرب والأردن، حيث ظهر الاستعداد الواضح لتحدي السلطة التنفيذية.
لكن الكاتب يحذر من التركيز علي القدرة علي تزوير الانتخابات كمؤشر علي قدرة النظام العربي علي السيطرة وقمع التوجهات الديمقراطية في المجتمع علي اتساعه. فمثل هذا التركيز من شأنه أن يحول اهتمامنا إلي الحسابات قصيرة المدي للنظام الذي يزور الانتخابات بعيدا عن الأمور الأكثر حسما في تقرير مصيره مثل التفاعلات المؤسسية طويلة المدي بين النظام والقوي الديمقراطية في الشارع السياسي، وتقوم هذه التفاعلات علي أساس قدرة مؤسسات الدولة أو تدهور قدرتها علي الانفراد بإدارة المجتمع دون حاجة إلي الشارع السياسي الذي يتبني أفكارا أكثر إلحاحا علي الديمقراطية والشفافية وسيادة القانون، ومع تغير مستوي القدرة يتغير حجم المؤسسات المختلفة للدولة والمهام المنوطة بها.
- الشباب والشرطة
وهنا يجب أن نتوقف أمام عاملين من أهم العوامل المؤثرة في المشهد السياسي الراهن، والتي أشار إليها المؤلف وهو يرصد قوي التغيير باتجاه المستقبل وقوي المحافظة علي الأوضاع القائمة منذ صدر هذا الكتاب وحتي أيام قليلة مضت في مصر هذان العاملان هما ما يسميه المؤلف «الورم الشبابي» وهو تعبير غريب نقله عن تقرير التنمية البشرية العربية السنوي الذي تعده نخبة من المثقفين العرب تحت إشراف البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، ويشير الي أن 38 بالمائة من السكان في الدول العربية هم دون سن الرابعة عشرة وإلي أن العالم العربي يحتاج إلي خلق خمسين مليون وظيفة جديدة هذا العام لتشغيل الشباب.
--
وهذه، كما تثبت أحداث يناير وفبراير من هذا العام، ومن قبلها أحداث تونس هي القوة الفعالة في الزحف نحو الديمقراطية: الشباب الباحث عن وظيفة، بغض النظر عن أي تلوين أيديولوجي أو طائفي لهذا البحث أو للحلول المقترحة للمشكلة.
وبالمقابل فهناك قوة القمع البوليسي التي وضعها المؤلف ضمن القوي المعطلة للديمقراطية وعندما التقت القوتان في شوارع القاهرة وميادينها اختفت القوة البوليسية. اختفي رجال الشرطة. ورغم أن التحقيقات لم تبين لنا بعد تفاصيل الظروف التي حدث فيها هذا الاختفاء الغامض فبوسعنا القول أن مقاومة الشباب في مختلف أنحاء الجمهورية جعلت القوات الشرطية علي الأرض تدرك أن مهمتها تحولت من دفاع عن النظام العام إلي هجوم علي المدنيين بسبيله إلي أن يتخذ أبعادا لا يمكن لأحد تحمل مسئولياتها.
--
هذه التحولات التي شهدناها جميعا وتابعها العالم معنا تشير إلي أن القوي علي الأرض تمضي بنا إلي أفق أوسع من ذلك الذي وقف عنده المحللون الغربيون عامة وبروس راذرفورد بشكل خاص. صحيح أن القضاء والإسلام السياسي لهما دور في صياغة المرحلة الراهنة من الديمقراطية ومستقبلها القريب، لكن القوي الشبابية التي أشار إليها راذرفورد إشارة عابرة وجهاز الشرطة الذي تعاد هيكلته الآن والذي نظر إليه نظرة استاتيكية تلقيان بأضواء جديدة علي مستقبل الديمقراطية عندنا .
ولا يقل عن هذين العاملين أهمية بل وقد يفوقهما دور الجيش كقوة ضامنة لسلامة التحول الديمقراطي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.