لا أتذكر أنني صادقت في يوم شخصا في سني أو أصغر مني بل كنت أفضل دائما مصادقه ومصاحبة الأكبر ظنا مني بأنه الأكثر خبرة ودراية بشئون الحياة.. ولا أنكر أن ظني بالعديد من الأصدقاء الكبار كان في محله باستثناء صديقي المسن الذي يزيد عليّ في العمر نحو ثلاثين عاما!!.. فأنا في منتصف الخمسينيات وهو تخطي الثمانين. لا تتعجبي فقد وجدت في هذا الرجل من الخصال الطيبة ما جعلني حريصا عليه وعلي صداقته وعلي تواصل أبنائي مع أبنائه.. وصاحبي ذو الثمانين ربيعا إنسان ودود.. يجيد فن التعامل مع الآخرين بأسلوبه المنمق الآخاذ واحترامه الشديد.. وحين تقابلت به بحكم جيرتي له في السكن توطدت علاقتي به والأسرة وتصورت أنه سيكون خير معين لي بالنصح والمشورة في المشكلات التي أتعرض لها.. لكنني اكتشفت أنه هو الذي بحاجة إلي نصحي الدائم فحياته سلسلة من المفارقات التي تقحمه في مشكلات لا يعرف كيفية الخروج منها!! إنه صديقي الذي منحه الله ذاكرة جيدة تفوق ذاكرتي علاوة علي اعتنائه الشديد بصحته وقد حثني عن الجزء الأول والثاني من حياته.. فهو خريج جامعة الإسكندرية.. حصل علي فرصة عمل بإحدي الهيئات الحكومية وعقب تخرجه تزوج بمن رزقه الله منها بأربعة أبناء والتي معها انطلق لآفاق أرحب فقد جاءه عقد عمل بأمريكا في المجال المحاسبي.. فسافر وبعد وقت قصير أرسل لزوجته وأبنائه واستقرت أحوالهم هناك ما جعله هو نفسه يواصل دراسته العليا في الحقوق.. لكن دوام الحال فقد رحلت أم أبنائه تلك التي أمضت معه عشرين عاما ولم يعرف معها سوي لغة التفاهم والاحترام المتبادل.. وبوفاة شريكة العمر.. قرر العودة والأولاد إلي مصر والبحث عمن تعينه علي تلك المسئولية ليبدأ الجزء الثاني من حياته.. وفي هذه المرة أخذته التجربة لمنعطف لم يكن يتصور أن يقع فيه ويلصق به وصفا مذموما لا لشيء سوي أن زوجته الثانية توفيت بعد وقت قصير من زواجهما تبعتها الثالثة والرابعة والخامسة"!!" وكلهن لم تزد فترة اقترانه بهن عن عامين وكلهن غادرن الدنيا سريعا لأسباب مرضية عادية.. ومع ذلك لم يسلم "الرجل" من همزات الأهل والجيران وباتوا يطلقون عليه لقب "قاتل النساء"!! محنة عظيمة لم يكن لأبرع روائي أو سيناريست أن تقفز بخياله.. لكنه الابتلاء الذي دفعه بعد أن انتهي من تعليم وزواج أبنائه للسفر من جديد إلي أمريكا ليبدأ الحلقة الثالثة من حياته وفي هذه المرة كان علي موعد مع السعادة حيث تزوج من سيدة أمريكية تصغره ب15 عاما تلك التي وجد فيها تعويضا عما أصابه فعلي الرغم أن الله لم يكتب له منها أبناء لكنها اتخذت هي من أولاده امتدادا لها.. فلا تمضي مناسبة إلا وترسل لهم بالهدايا حتي أصدقاؤه -وأنا منهم- لا تنسي مجاملتهم وكم بعثت لي وأولادي من الهدايا رغم أنني لم أتقابل بها يوما.. وكل معرفتها بي من حديث زوجها عني!! عالم صديقي المسن الذي عاصرت الجزء الثالث فيه أخذني كثيرا من حياتي الخاصة فهو لا يتوقف عن استشارتي في كل صغيرة وكبيرة كلما نزل إلي مصر لمتابعة أحوال أبنائه.. حتي فاجأني في زيارته الأخيرة بأنه قرر البقاء.. أخبرته وزوجتك الأمريكية.. قال محادثاتنا عبر الهاتف لا تتوقف.. قلت له: وأين باقي حقوقها عليك.. صمت ولم يرد؟! أعترف أنني فشلت لأول مرة في إقناع صديقي بضرورة السفر لزوجته التي لن يجد مثلها في رعايتها واهتمامها به وتعاملها الراقي مع كل من يعرفهم.. أشفق علي أخي المسن من الوحدة التي أعاني منها منذ أكثر من ست سنوات حين انعدم الوفاق بيني وبين زوجتي الأولي ليس لأنها اختيار أبي وإنما لإصرارها علي إقحام أهلها في كل مشاكلنا حتي كانت الفارقة حين رشحتني جهة العمل للسفر ضمن بعثة في الخارج ورفضت العودة للبيت وكان من بين أبنائنا "الرضيع" الذي بحاجة ماسة إليها الأمر الذي دفعني للبحث عمن ترعي صغاري أثناء السفر.. ووجدتها وكانت بحق أفضل مما كنت أتوقع في اهتمامها بأبنائي لكن.. لكن.. ما أن رزقت مني بأبناء حتي تبدلت معاملتها لأولادي من الزوجة الأولي تماما هذا التغيير الذي لم تفلح المحاولات في إصلاحه.. فكان الانفصال حرصا مني علي سلامة أولادي النفسية هؤلاء الذين عشت لهم ومازلت -بفضل الله- أتابعهم في كل شئونهم سواء أبنائي من الأولي أو الثانية. .. نعم الآن أشكو الوحدة لكن يكفيني أنني لست مثل صديقي المسن المذنب في حق زوجته.. يكفيني راحة البال التي أشعر بها وأنني في يوم لم أظلم أحدا وإن ظلمني الكثيرون وما قصدته من رسالتي إليك ليس الحديث فقط عن عالم صديقي المليء بالمفارقات وإنما لأقول لغيري إن الصداقة تحتاج إلي شجاعة النصح والمشورة.. فلا تخجل من إسداء النصيحة إلي صاحبك مهما كانت مرارتها.. ومهما بلغ فارق السن بينكما.. فالتوافق بين الآخرين لا يعرف عمرا!! ** المحررة من الواضح أنك من الشخصيات الاجتماعية الجسورة التي تملك من المهارات ما يجعلها تقتحم عوالم الآخرين دون تردد أو خجل وهو ما لمسته أنت بنفسك حين أشرت إلي أنه ما كان مراسلتك للنافذة للحديث عن حياة صديقك المسن ومفارقاتها.. وإنما بقصد حث غيرك علي عدم التردد في تقديم النصيحة إلي صديقه مهما بلغت من القوة والحسم ومهما كان فارق السن بينك وبينه. وهو في حالتك يرشح لدخول موسوعة جينس من أوسع أبوابها. وقد مارست هذه النصيحة ولم تأت بمردودها وأنت تلفت صديقك ذي الثمانين عاما إلي حق زوجه عليه.. وتغضب لإهماله لها وعدم مبالاته بحقوقها الشرعية عليه.. وهي التي أظهرت من الخصال النبيلة ما يجعل التفريط فيها من الحماقة والجهل.. لكن يبقي لصديقك بعض العذر وهو أنه طاعن في السن وبات من الصعب عليه مغادرة الوطن والسفر وهو ما يحتاج منك مزيدا من الجهد لإقناعه بإحضار زوجه من أمريكا.. أو تسريحها سراحا جميلا مثلما فعلت أنت مع زوجتيك السابقتين.. وفواصل مهمتك نحو صديقك المسن.. ولا تجعل انشغالك به يصرفك عن نفسك فمازالت الحياة أمامك لكي تبحث عن الزوجة الثانية التي تؤنس بها وحدتك وتشاركك همومك الخاصة التي لا تستطيع البوح بها لأعز الأبناء والأصدقاء. .. فكر.. ولن تندم. تواصل: القارئ محروس عبدالحي من باب الشعرية.. أهلاً بك صديقاً للنافذة.. ومرحباً بمشاركاتك التي بدأتها بإسداء النصح لصاحب رسالة "إعوجاج" بأن يصبر علي اختياراته قليلاً وأن يتخلص من الحساسية المفرطة في معالجته للأمور.. فالحياة لا تتحمل كل هذا الحذف والشطب ويبقي الكمال لله وحده.