لقد كان بسمارك، مستشار الرايخ الألماني، مدركًا أن مع نهضة الرايخ في عام 1872م لن تؤول إليه مسؤولية وطنية أعظم من تلك المعنية بتأمينه من كافة القوى الرجعية المتربصة به، الساعية لهدم كيانه، كالقوى الأرثوذكسية الكاثوليكية، التي - آنذاك كاليوم – تحصى من كبراها. لاسيما بعد أن أعلن بطريرك الفاتيكان بيوس التاسع في بيانه المشهور باسم سيلابوس، في عام 1864م، بأن مؤسسته كيان مستقل عن الرايخ، وأنه لا يعترف بحكمه الذاتي، الذي أسماه بالحكم المطلق، يقصد بذلك الحكم الذي يستثني شراكة كنيسته منه، وبعد أن شهدت القارة الأوروبية سعيه في غرس بذور الفتنة على أرضها، من خلال سياسات مناهضة لنظمها وقيمها الوطنية، كالأولترامونتانيزم (Ultramontanism)، التي دعا الفاتيكان بها الكنائس التابعة لمعتقده للالتزام بسياساته ولو بالمخالفة لسياسات النظم التي تحيي فيها، وقساوستها لتربية أتباعها على الطائفية بدلا من الوطنية، هنالك تأكد بسمارك أنه ما من مجال للتهاون مع تلك المؤسسة الصليبية وأخواتها، وأن الحاجة للتصرف في شأنها عاجلة. لعل خير ما قصده بسمارك في حق السابق ذكره، كان التحالف على أرض الرايخ مع القوى الليبرالية، كبرى القوى السياسية في عهده، لتشريع قوانين تحصن وطنه - من ضمن أمور عدة – من القلاقل الطائفية التي عهدها من كنائسه، المعروف عنها إثارتها لها. أول تشريع أقره مجلس الرايخ في حق السابق ذكره صدر في عام 1871م ، أي في العام الأول من نهضة الرايخ الألماني، وعرف باسم "قانون المنابر" (Kanzlerparagraph). من اسمه يمكن أن نستدل على غرضه، ألا وهو منع القساوسة من سوء استغلال منابرهم للخطاب السياسي المناهض للدولة، جزاء من خالفه كان السجن، مما تلا ذلك التشريع، إقرار من المجلس بحل القسم الكاثوليكي للكنيسة الكاثوليكية من وزارة الثقافة للرايخ الألماني، تلاه قرار رفع مسؤولية الرقابة التعليمية (Supervesion of school) عنها، وعن عموم الكنائس والجهات الإقطاعية التي كانت مفوضة بها، لنقلها لجهات مدنية وطنية، يتم تعيينها ومراقبتها من الرايخ الألماني.. القرار الآخر ذكره كان يهدف إلى جانب الحد من تأثير الكنيسة الكاثوليكية على المناهج التربوية، نهضة مناهج وطنية موحدة على الرايخ الألماني. في 11 مارس من عام 1872م، أي في العام الثاني من نهضة الرايخ الألماني، أقر مجلسه في حق الكنيسة الكاثوليكية قانونًا سماه "قانون اليسوعيون" (Jesuitengesetz). لقد كان يغرض لأمر واحد فقط، ألا وهو حظر نشاط الجماعة اليسوعية، التابعة للكنيسة الكاثوليكية، على أرض الرايخ الألماني، لثبوت معاداتها لسياساته، كنشر "ثقافة" الأولترامونتانيزم للفاتيكان على أرضه، ولقد تم مد نص ذلك القانون فيما بعد ليشمل حظره عموم الجماعات الصليبية القائمة على الرايخ، التي لها صلة بالجماعة اليسوعية، أو تتبع ذات المنهاج السياسي والفكري المتطرف لها. لعل أشهر القوانين على الإطلاق التي تم إقرارها للحد من السياسات الطائفية للكنيسة الأرثوذكسية في زمن الصراع الثقافي، كانت تلك التي أشتهرت باسم "تشريعات مايو"، لقد سميت كذلك لصدورها جميعًا في شهر مايو من عام 1873م و1874م و1875م، لضيق المساحة المتوفرة للكتابة سوف أتناول اليوم فقط أول تلك التشريعات، تشريع 11 مايو لعام 1873م. مما نص: أن الرايخ الألماني سوف يتولى بنفسه مسؤولية تأهيل ممثليه الروحانيين - بمعنى القساوسة – بدلا من الكنيسة الكاثوليكية أو الكنائس الصليبية التي كانت آنذاك قائمة به، وأنه لن يقبل على أرض الرايخ فيما بعد بتعيين أي ممثل روحاني عليه، ما لم يثبت حصوله على المؤهل السابق ذكره من الدولة (شهادة تخرج)، أضف إلى ذلك موافقة منها على الشخص الذي سيتم تعيينه من الكنيسة لمنصب ما، القانون كان هدفه الأساسي نقل مسؤولية تأهيل وتخريج الممثلين الروحانيين من الكنيسة إلى الدولة، لضمان ولائهم الخالص لها، لا لنظم أجنبية أو لمؤسسات تسعى لشراكة سيادتاها، كالفاتيكان، الذي كان – ولايزال – يدعو مسئولي الكنائس التابعة لمعتقده بالعمل بسياساته ومؤازرته، ولو بالمخافة لسياسات الأوطان التي هي قائمة فيها، تقديس قتلى المجرم الطاغية فرانكو، بالمخالفة لفكر ومعتقد الجمهورية الإسبانية، بل للرأي العام على القارة الأوروبية ودوليا، خير مثال عصري يمكن أسوقه على ما سبق سابق ذكره. أحب أن أذكر هنا فيما يتصل بالسابق ذكره، أن الحزب الصليبي الديمقراطي، الكاثوليكي، الذي يرأسه في حاضرنا أنجيلا ميركل، رئيسة ألمانيا، قام - بحسب رأيي - بالأمس القريب، بتطبيق صورة شبيه – أن لم تكن مماثلة أو متطورة - من تشريع 11 مايو على الجاليات الإسلامية القائمة في هذه الجمهورية. بحجة حاجة الجمهورية الألمانية لأئمة مسلمين، يخدمون الجاليات الإسلامية القائمة فيها بصورة وطنية، لا تغرض لنشر فكر إرهابي في نفوس أتباعها، أو تصور أجنبي معاد للدولة ودستورها، الأمر الذي حتمًا سيسبب قلاقل على أرضها، أقر الحزب الصليبي الديمقراطي، بالإجماع مع الأحزاب المتحالفة معه، بتفويض مهمة تخريج الأئمة لعدد من الجامعات الألمانية، للأسف دون مشاركة الجاليات الإسلامية أو استشارتها عن السبيل الواجب تتبعه في ذلك، على الرغم من أن الحاجة لذلك، لأجل إنجاح ذلك المشروع القومي الذي يحتاج لتوافق القوى الوطنية المعنية به، بديهية – على فرض أن التوافق هدف الحزب الصليبي الديمقراطي. المهم لقد تم أخذ قرار تخريج الأئمة من ذلك الحزب بسلوك غير سوي، شهدنا تكراره للأسف الشديد عند الجامعات التي تم تفويضها بتلك المسئولية، حيث قامت هي الأخرى بتجاهل الجاليات الإسلامية في موضوعه الحساس بدلا من مشاركتها فيه، فكفلها ل"مسلمين" لا يفقهون عن الإسلام شيئا – بحسب رأيي، موظفين على ما يبدو لغرض واحد، ألا وهو إحقاق رؤى السيدة ميركل وحزبها في ديننا، أذكر منه – صدق أو لا تصدق – تصحيحه، بمعنى تصحيح تصوره ومفاهيمه، ربما ليتقارب مع رؤياهم الصليبية، وهو ما لا يستقيم في شأنه، الأمر الذي أعده إساءة مقصودة منهم للإسلام، وسياسة خسة رخيصة منهم، لا تهدف سوى ترويج الأكاذيب عن ديننا، وتقديم صورة سيئة عنه لمواطني هذه الجمهورية .. سياسة عهدناها من الأرثوذكسية وأخواتها على مدار تاريخها على القارة الأوروبية، واليوم للأسف أيضًا على إفريقيا. أذكر السيدة ميركل هنا، أن عدد المتحولين من الألمان إلى الإسلام يزداد يومًا بعد يوم، فيما أتباع معتقدها وكافة المعتقدات الصليبية يتحولون عنه إلى يومنا هذا أفواجًا أفواجًا، لعدم اعتبار كنائسها لحاجات أتباعها، الذين يدعونها ليل نهار لتصحيح تصورها ومعتقدها، الذي ما عاد مقبولاً لديها، فلا يخدم أحد، بشاهدة جرائم قساوستها البشعة، التي صدرت منهم ليس فقط في زمننا هذا، بل على مدار التاريخ. الأحداث المؤسفة التي شهدناها من الكنيسة الأرثوذكسية المرقسية وحلفائها والجماعات المنتسبة إليها على أرض الجمهورية، قبل وبعد الثورة، والتي ذكرتني عمومها بالماضي الكئيب لأختها الأرثوذكسية الكاثوليكية على القارة الأوروبية، لا تبشر بخير على الإطلاق، الشاهد في عمومها، أنها لا تهدف سوى مناهضة نهضة وطننا.. لا غير. فها هي جماعة الأمة القبطية تشهر على صفحات ويكيبيديا عدائها لقيمنا الوطنية، بدءا بلغتنا العربية، لآخر الشرعية الدستورية للجمهورية، الأولى تريدها قبطية والثانية كنسية إنجيلية، وها هي الكنيسة الأرثوذكسية، لا زال مسئولوها متمسكين بسياساتهم القديمة، التي ما خدمت بالأمس سوى طغاة الجمهورية وحلفائها، واليوم سندهم، وها هم قساوستها ما زالوا يثيرون القلاقل على أرضنا، التي كانت بالأمس سبب مأساة ماسبيرو، التي راح ضحيتها جندنا، واليوم على ما يبدو مأساة الخصوصية والكاتدرائية، والغد ... ؟؟؟ .. لكل ما سبق ذكره أنهي مقالي اليوم بسؤال واحد لكم أيها السادة القراء، ألا تعتقدون أنه آن الأوان لرفع شأن تلك الكنيسة والجماعات الصليبية المتطرفة القائمة فينا للأمن القومي؟ .. هل بعد استعداء بعض قساوستها الخارج علينا من شك في ذلك؟؟ لقد فعل بسمارك ذلك لحماية وطنه، ونابليون كذلك من قبله، و"المختارون من السماء" قبل ذلك بكثير، واليوم القوى الجمهورية دوليا بكافة القوى التي تهدد كيانها.. فعلام الانتظار؟.. حفظ الله مصر، مسلميها وصليبييها وعلمانييها، وكل نفس قائمة فيها، من المتطرفين والرجعيين المتربصين بها.. وللحديث بقية. [email protected]