لعل أكثر ما كان يخشاه بسمارك من السياسات الطائفية التى كان الفاتيكان يكيدها للرايخ الألماني، إفسادها وحدته الوطنية الحديثة النشأة، وعملها بذلك على تقسيمه إلى ممالك مستضعفة، كما كان الحال على أرض الرايخ قبل نهضته عام 1872. الأمر الذى أخشاه اليوم أيضًا على القارة العربية والإفريقية من المؤسسات والنظم الرجعية القائمة فيها، المتواطئة على مصالحها مع الأممالمتحدة على نهضتها منذ عهد الإمبريالية، بل العهد الحديث (Renaissance)، الذى يشهد تاريخه أنه كان بداية مخطط تقسيمها، واستعباد شعوبها ونهب ثرواتها، بمشاركة وبركة ذات المؤسسة الأرثوذكسية التى كان بسمارك يخشاها. خير مثال يمكن أن نسوقه فى حاضرنا لفهم السابق ذكره، موقف الكنيسة الأرثوذكسية المرقسية من الثورة الوطنية. فبدلاً من أن تشاركها، وبذلك المسيرة الشعبية الحضرية نحو العدالة والحرية، ذهبت فى تلك اللحظة التاريخية الفارقة بسياساتها الرجعية تنصر عدوها، مسيئة بذلك إليها، والمعانى الفاضلة التى نادت بها - ككل ثورة شعبية فاضلة: أخوة وحرية وعدالة اجتماعية، ليشهد التاريخ مرة أخرى لمؤسسة أرثوذكسية، أنها - كأختها الرومية - خذلت شعبها فى طور التحول (Evolution) الثقافى والاجتماعى الديمقراطى الحضرى الذى كان يسعى لنهضته، مفرقة بذلك وحدة شمله، فزعزت استقرار شأنه. موقف الكنيسة المرقسية من شهداء الجمهورية يمكننا أن نسوقه كمثال آخر لما سبق ذكره. مشهدها الرافض لتأبين شهداء الجمهورية، الذين وحدوا آمالنا وصفوفنا، وضحوا بأنفسهم ليزيحوا عنا هم الطاغية، ومشهد تأبينها من روع مواطنينا وقاتل جندنا، لا يمكن تفسيره بوطنى أبدًا، لكن طائفي، لا يخدم وحدتنا، بل فرقتنا، وانقسام حال الحى والميت فينا بفكرها.. وهو تحديدًا ما كان يخشاه بسمارك من تلك المؤسسة، وأخشاه اليوم أيضًا منها على وطننا، كما يخشاه مسؤولو النظم الجماهيرية للقارة الأوروبية من المؤسسات الأرثوذكسية وأخواتها القائمة فيها، فلا يزالون إلى حاضرنا يترقبون دورها وسيرتها، ويدعون ليل نهار لفصلها عن الساحة السياسية، إعمالاً بالمبدأ المعروف عندها منذ الثورات الشعبية التى عزلتها عنها لينهض حالها: فصل الكنيسة عن الدولة (seperation of church and state). أود الإشارة هنا فى السابق ذكره بما سبق وأن ذكرته فى أول مقال لى من سلسلة مقالات الصراع الثقافي، إلى أن كل ما نشهده اليوم من المؤسسة المرقسية، عهده ليس بغريب أو جديد فى الساحة الأرثوذكسية الدولية. المتتبع لمشهده فى زمننا هذا، سيدرك أن مواقف تلك الكنيسة سبق أن مارستها أختها الرومية مع الجمهوريات الأوروبية. لذلك زعمت عن سياساتها، أنها إما متآسية منها أو متفقة معها. مشهد عدم تأبين شهداء الجمهورية خير مثال عصرى يمكن أن نسوقه للادعاء السابق ذكره. ففى عام 7200، قام سباب رسول الله، بطريرك الكنيسة الرومية، بنديكت السادس عشر، بتأبين قتلى جند النظام الفرانكوفونى الفاشى فى قداس أقامه لهم فى روما بتاريخ 2007.10.27، على الرغم من علمه بأن فعله سيتم ترجمته من الجمهورية الإسبانية، التى عانت منهم وقائدهم الفاشى فرانكو، إساءة فى حقها وحق شهدائها، وفوق ذلكم إساءة شخصية لرئيسها، خوسيه لويس ثباتيرو، الذى قُتل جده على يد جند جيش ذلك الطاغية، لامتناعه عن نصرته. لقد ضرب بنديكت السادس عشر بفعله المشين رجاء ومشاعر الحكومة الإسبانية عرض الحائط، إعمالاً بمبدأ سيلابوس القائل: إنه لا حاجة للكنيسة اعتبار أى سياسات وطنية إذا كانت مخالفة لتصورها أو لسياساتها المؤسسية، التى – بحسب رأيى - لا يحق وصفها أبدًا بالمسيحية، لكن طائفية مائة بالمئة، لا تنشر بين العباد سوى البغضاء والكراهية. لاحظوا أيها السادة، أنه على الرغم من انقضاء تقريبًا ثلاثة أرباع قرن على انقلاب فرانكو وجنده على الجمهورية الإسبانية، وعلى الرغم من علمها بأن ذلك المجرم الفاشى ما نهض إلا بدعم من مجرمين أمثاله، أذكر منهم هتلر وموسوليني، لم تثنِ تلك المعرفة أبدًا بطريرك الكنيسة الرومية فى عصرنا الحالى عن توقير ذلك الطاغية وأتباعه. إنه لتصرف لا يؤكد سوى ما سبق وأن زعمته عن طبيعة الصراع الثقافى للأرثوذكسية وعموم الصليبية الرجعية مع نظم وشعوب العالم المغاير لها ولتصورها أنه أزلي. للسابق ذكره لن يفاجأنى فى المستقبل رؤية اسم وسيرة الرئيس المخلوع الطاغية حسنى مبارك محفوظا عند تلك المؤسسة، فى كتبها وصحفها، بين جملة الرجال التى صنعتها، أو قل صقلت خلقها: فرانكو وهتلر وموسولينى.. جعلها الله شهادة عليه وعلى كل من يقر بنهجه، يومئذ وفى الآخرة. ما وجب ذكره هنا فى موضوع تأبين بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الرومية لقتلى الفاشية من الإسبان، أنه أراد بفعله أن يسبق الأحداث السياسية التى كانت تجرى على أرض إسبانيا عام 2007. ففيه كانت الحكومة الإسبانية تعكف على إصدار قانون سمّته بإجماع القوى الوطنية "للذاكرة التاريخية" (Ley de Memoria Histórica...)، يهدف إلى تشهير فرانكو بالمجرم، ونظامه بالجائر، فرفع الأحكام الظالمة التى صدرت منه فى حق المعارضين له، ورفع صور قائدهم الطاغية وتماثيله عن الأماكن والمؤسسات العامة، التى تعد الكنيسة واحدة منها، أضف إلى ذلك تحريم تمجيد ذكراه، التى كانت على سبيل المثال تحدث كل عام أمام قبره. لقد أرادت الحكومة بذلك التشريع تصحيح أسلوب تعامل وتداول مؤسسات الدولة لتلك الحقبة التاريخية الحساسة بصورة فاضلة، تكشف الحقيقة الكاملة كما هي، دون أن تفسد الود بين أبنائها. للآخر ذكره كان مما أقرت به القوى السياسية فى ذلك التشريع، نبذًا للخلافات الوطنية الطائفية، أن العنف الأيديولوجى والطائفى والسياسى التى شهدتها تلك الحقبة بقواها الوطنية، كانت خصال قائمة عند جميعها. طبعًا لم تكن الكنيسة الأرثوذكسية راضية على ذلك التشريع، فهى إلى حاضرنا تأبى إلا وأن تصور الديكتاتور الفاشى بالبطل القومي، وجرائم جيشه بدفاع باسل وشرعى ضد الجمهورية.. ولا أقول أعداء الجمهورية. لا أستطيع أن أفسر موقفها من ذلك الطاغية سوى بأنه إظهار العرفان له. فلقد كانت - ومازالت إلى حاضرنا - أكبر منتفعة منه ونظامه الفاسد. من واجب مسؤولى وطننا فى حاضرنا تبنى تشريع مماثل للتشريع الإسبانى السابق ذكره، بصورة مستحدثة لمصالحه؛ يتم فيه على سبيل المثال تجريم الرئيس المخلوع حسنى مبارك وسند نظامه، وإقرار عزل كل من سانده عن الساحة السياسية والمؤسسات الوطنية، كذلك تحريم تمجيد ذكراه ومعه ذكرى قتلى ماسبيرو، وأداً للفتنة للطائفية. [email protected]