كنت أسأل نفسى مرارًا فى عهد الرئيس مبارك عن سر إعجاب الكنيسة الأرثوذكسية به، على الرغم من علمها بفساده وعدائه لعموم مواطنى الجمهورية، وخصيصًا مجتمعه المسلم المسالم. أهو النهج الأوتوقراطى (الديكتاتورى) غير الديمقراطى الذى نهجه فيهم؟ أم هى سياساته "الاجتماعية" التى كانت تهدف إلى تطويع شعبه على إرادته بمصادرة حقوقه الطبيعية ؟ أم هو عداؤه لكل فكر عقلانى مستنير مخالف له، كالإسلامى والليبرالى، ما جعلتها ترى فيه القدوة والرشاد والمثل ؟ أسئلة لست بأول من خطرت على باله، سبقنى إليها ليبراليو ومثقفو المجتمع الأوروبى، وكذلك مجتمعه الكنسى المفكر، إلى كنائسه منذ أمد بعيدة، للاستعلام عن ذات أسباب تحالفها مع شياطين وطغاة قارتهم، هتلر وموسولينى وفرانكو و...و.. أوائل القرن العشرين الماضى، على الرغم من علمها بعدائهم لهم، ناهيكم عن جرائمهم غير الإنسانية التى مارسوها فى حقهم. لم يفد الفاتيكان ولا الكنائس الأخرى بأى إجابة شافية على تلك التساؤلات، كذلك لم يعبر عن أسفه الصريح لتلك العلاقة، بل – للأسف - ذهب تارة يدافع عنها بحجة أنها كانت ضرورية لضمان أمن ومصالح مجتمعه الكنسى (شعب الكنيسة لا وطنه)، وتارة أخرى بزعم أن الظروف والمناخ السياسى الذى كان قائمًا فى ذلك الزمن أجبره على قبولها. لهم أن يقولوا ما شاءوا، الثابت فيهم أنهم تحالفوا مع الطغاة بمحض إرادتهم، وأنهم انتفعوا منهم بلا حدود مقابل تأييدهم ونصرتهم، الذى كان من أسوأ مظاهره، سكوتهم على جرائمهم وأحيانًا مباركتهم لها ... يحضرنى فى ذلك، الموقف المخزى للكنائس من الإبادة العرقية التى حدثت لليهود والرومان على يد هتلر، فلم يسجل التاريخ لها فى ذلك الزمان أى موقف رسمى واضح مستنكر له، وكذلك موقف الكنائس المخزى من قتل وسفك دماء نصف مليون نفس زكية من شعب أثيوبيا على يد السفاح موسولينى... بدلا من أن تستنكر جرائمه، ذهبت إلى تشجيعها ووصفها بشرعية وصليبية مباركة ... والحكم يومئذ لله. للأسباب السابق ذكرها، وللتجربة والخبرة السلبية المديدة للمجتمع الأوروبى بكنيسته، فى دعم شئونه ونهضة تطلعاته، على مدار تاريخه وعهده بها، تحول عمومه عنها، وبات إلى حاضرنا يتوخى الحذر منها، وتحديدًا من سياساتها الرجعية، التى سبق وأن عطلت بها مرارًا سعيه الفاضل نحو إقامة عالم أفضل له وللعالمين، يحكمه نظم ديمقراطية بسياسات ليبرالية، لا مؤسسات "ربانية" بسياسات - يسمونهم الليبراليون بتهكم - "المختارون من السماء"، أى سياسات لا يصدر عنها سوى "مختارون من السماء"، بمعنى ولاة مباركون من الكنيسة، لم يشهد لهم التاريخ أبدا أنهم آمنوا أو كفلوا لشعوبهم أو للعالمين حقوقهم الطبيعية، بل عكس ذلك، نهبوا خيراتهم واستعبدوهم بسياساتهم وجيوشهم...إلى حاضرنا. فى حين أن الفاتيكان لم يفد للأسئلة التى سقتها مقدمةً إجابة شافية، خدم موقفه الصريح والمعارض لسعى شعوب القارة الأوروبية نحو الليبرالية والديمقراطية فى معرفتها. الأمر الذى أود كشفه فيما يلى، من خلال عرض مقتطفات من بيان بطريرق الفاتيكان، البابا بيوس التاسع (Pius IX)، الصادر باسمه عام 1867م بعنوان "الجامع للبواطل" (باللاتينية: Syllabus Errorum)، المشهور أيضًا باسم سيلابوس. البيان يعد من أشهر وأهم الوثائق التاريخية التى كشف فيها الفاتيكان عن موقفه من تحول شعوب القارة إلى الليبرالية والنظم الديمقراطية، فعن الفاتيكان ومرجعياته النصرانية. يرى المؤرخون أن بيان سيلابوس صدر من الفاتيكان أساسًا ليعبر به عن جام سخطه وغضبه من تحول شعوب القارة الأوروبية عنه وعن مرجعياته إلى الليبرالية بدء انطلاقة عهدها وعهد الديمقرطية. أهمية بيان سيلابوس يكمن فى أنه كشف بكل وضوح وشفافية موقف الفاتيكان من الدولة والمواطنة، ورؤيته للنظم والمجتمعات الحديثة التى تحيى فيها، وللأيديولوجيات والمعتقدات المخالفة لها. كلها ستساعدنا على فهم مواقفه التاريخية من الجمهوريات التى تسعى أو سعت نحو الديمقراطية، فأسباب تلاحمها مع أعدائها، القوى الفاشية أو الأتوقراطية، دوليًا. الأمر الذى سيفيدنا أيضًا على فهم الكثير من مواقف الكنائس المصرية من التحول الديمقراطى الحادث فى الساحة الوطنية، وفى تفسير الأحداث التاريخية المشهودة لها ومن رهبانها فيه بالصورة الصحيحة الواجبة. فما يصدر عنها فى هذا الزمن - كما قلت فى مقال سابق لى وبحسب ما شهدت - شبه تكرار لسيناريو الكنيسة الرومانية مع شعوب القارة الأوروبية يوم أن تحولت عنها وعن مرجعياتها إلى الليبرالية والديمقراطية. وللحديث بقية [email protected]