الشىء المشترك الذى تستنتجه من أحداث العباسية، وما سبقها من فواجع أن مكانة "دماء المصريين" هى بحالها، كما قبل الثورة لم تتغير قيد أنملة، وأن دم المواطن رخيص، بل من أرخص الأشياء إن لم يكن أرخصها، فقبل الثورة كان من السهل أن يُسفك هذا الدم فى طابور للخبز أو بسبب أن "خِلْقة" المواطن لا تروق لجزار أمن الدولة فى سلخانة التعذيب، وبعد الثورة يكفى أن يشارك المواطن فى اعتصام ما أو يرتكب خطأ فيستباح دمه بكل هدوء. من أظهر الفوارق بين عالمنا والعالم الغربى هذه النقطة؛ دم المواطن هناك وكرامته وإنسانيته لها قيمة عند الحكومة والمعارضة والشرطة والجيش وكل مؤسسات الدولة، أما فى مصر فما أرخص ذلك، وما أهونه على الجميع. فى أحداث العباسية، من وجهة نظرى، أخطأ المعتصمون الذين نقلوا اعتصامهم من التحرير إلى العباسية قريبًا من وزارة الدفاع، حيث المكان غير مناسب ألبته لاسيما مع اعترافهم باندساس بعض العناصر بينهم كانت تعمل على اشتعال الأحداث، ناهيك عما يسببه الاعتصام من تعطيل لحركة المرور وأرزاق المواطنين الذين تقع محلاتهم قريبًا من مكان الاعتصام، خاصة إذا كان هذا المكان هو العباسية، حيث كانت تخرج مظاهرات التأييد للمجلس العسكرى ردًا على مظاهرات التحرير الداعية لرحيله- أقول: أخطأ المعتصمون فى ذلك كله، لكن هل جزاء الخطأ القتل وسفك الدماء بمنتهى البرود؟؟!! فى مصر وحدها يكون جزاء الخطأ هو القتل الفورى المستحر بأبشع الصور وأقسى الهيئات، بينما يكون جزاء قتل النفوس وإفلاس البلاد وسرقة ثرواتها على مدى ثلاثين عامًا هو محاكمات مدنية مماطلة، قد يموت بعضنا قبل أن يسمع النطق بالحكم فيها! إن كانت الثورة – بلا شك- قد غيرت فى مصر أشياء، فالاستهانة بدماء المصريين وسفكها لأدنى ملابسة مازالت كما هى لم تتغير ولم تؤثر فيها الثورة شيئًا. والقضية- فى نظرى - قضية ثقافة، ثقافة لم تصل بعدُ إلى السلطات والمؤسسات التنفيذية أو الحاكمة من جيش وداخلية وغيرهما من مؤسسات الحكم التى تغيرت بعض كوادرها أو مسمياتها ولم تتغير عقيدتها وفكرتها ونظرتها إلى المواطن باعتباره صاحب كرامة يجب أن تحترم ودم يجب أن يصان، وأن معاقبته إذا أخطأ يجب أن تكون وفق مقررات القانون لا أمزجة القائمين على تنفيذه. من المؤسف أن القضية ليست قضية أجهزة الدولة فحسب، بل هى كذلك موجودة بين جمهور كبير من المواطنين استطاعت عقود الاستبداد والاستعباد أن تقتل فيهم تلك الثقافة؛ لذا ترى بعضهم يهلل إذا قُتل مخطئ ليس القتل عقوبته، أو سُحل مخالفٌ لهم فى الرأى ليس السحل من جزائه القانونى أو حتى الإنسانى. إن لزاماً على قادة الرأى والفكر وأرباب القوانين أن يعيدوا، وبكل سرعة وقوة، نشر ثقافة احترام آدمية المواطن وحرمته والصيانة الكاملة لعرضه ودمه بين الجماهير والمؤسسات والسلطات، على حد سواء، وأن يوجد من التشريعات والقوانين ما يرسّخ ذلك ويضمن تحققه وحمايته إذا كنا نأمل فى تغيير حقيقى فى واقعنا السياسى والاجتماعى. [email protected]