لا أحد يتخيل أن فن النجاح قديم جداً وجديد جداً. ولا أحد يتصور أن النجاح ليس إلا ضربة حظ تهبط علي من تختاره الظروف، وتهديه ما ينظر إليه الآخرون، وكأنه نال فوق ما يتخيلون. لا أحد يتصور أن النجاح من أيام الفرعون أحمس، ومروراً بالفيلسوف كونفيشيوش بالصين، وصعوداً علي سلم الحضارة إلي ليوناردو دافنشي، ووقوفاً أمام موهبة ابن النفيس مكتشف الدورة الدموية، وانتهاء بأحمد زويل الذي يعيش في الولاياتالمتحدة، كل هؤلاء بمن فيهم نجيب محفوظ كانوا يملكون تواضعاً وصبراً لمراجعة أي عمل يقومون به، ويحاولون الاحتفاظ بدرجة من اليقظة التي تؤهلهم لنقد أنفسهم، والتواضع لحظة أن يسمعوا آراء الآخرين في أعمالهم. ولست أنسي ملامح د.تريزا لوجان التي تقود رجال الإدارة العليا في معهد سياتل الذي يعيد تأهيل من تعدوا الخامسة والثلاثين لتولي مناصب عالية، وكنت أتحدث إليها علي هامش معرض الآثار المصرية الذي كان بدنفر عاصمة كلورادو، وجاءت هي من سياتل إلي دنفر لتري الآثار، وتوقفت كثيراً أمام مركب أمنحتب الثاني وقالت: "أنت لا تجد ذرة من خطأ في انسيابية هذا القارب الساحر، وحين تنظر إلي دقة التلوين، فأنت تجد نفسك أمام معجزة حقيقية بكل المقاييس. وستجد نفس المسألة حين تتفحص أي منتج صنع في الصين القديمة أو اليابان، كانوا يعتبرون الاتقان هو الوسيلة الأساسية للتعبير عن إيمانهم، ولم يكونوا أهل ثرثرة بكلمات تنسب لنفسها الإيمان ثم يسلكون عكس ذلك، ولهذا كان نجاح أي واحد من أبناء تلك الحضارات هو نجاح داخلي، ونجاح خارجي في آن واحد وليس نجاحاً مغشوشاً مثلما يصنعون في أيامنا هذه حيث يكون نجاح بوش علي سبيل المثال في دورة الرئاسة الأخيرة هو ابن لتخويف البشر، وزلزلة إحساسهم بالأمان. وليس كنجاح مطربي الروك والموسيقي الصاخبة المعدنية التي تصدر من آلات تضخم الصوت وتلغي أدمية المستمع، وتترك العازف والمغني وهما في غاية الإرهاق، وكل منهما واثق أن هذا الذي يعيشه ليس نجاحاً، ولكنه صناعة الدعاية، وصناعة رسم الخطط الإعلامية، وغير ذلك من الخطط التي تصنع نجاحاً خارجياً وتترك الأعماق مجوفة من المعني، فيتجه النجاح إلي الاكتئاب، لأنه لم يكتشف فن التوازن بين نجاح الخارج ونجاح الداخل". لا أنسي أني قلت لتريزا لوجان الطبيبة النفسية: "هل معني هذا أنك صرت مثلي ذات أفكار غير مناسبة للقرن الواحد والعشرين وتريدين عودة الإنسان إلي البدائية؟". أجابت: ليتك تكون معنا ونحن نناقش أسرار النجاح مع المديرين الجدد، ونلقنهم فن الحياة مع التلقائية بدلاً من الخطوات التي سادت في النصف الأخير من القرن العشرين، حيث كان المدير يبدو وكأنه أراجوز في سيرك التزييف، لا يملك سوي السير علي الخطوات المكتوبة له من قبل أن يتحرك. أقول لتريزا: أخشي أن يكون الإنسان هنا قد فقد القدرة علي التلقائية من فرط حصاره بالآلات التكنولوجية. تقول تريزا: التلقائية لا تموت من الإنسان، قد تختفي أحياناً، ولكن إن أصر علي أن يعيد التأكد من عمله مرة بعد الانتهاء منه، وأصر علي أن يكتشف عيوبه دون جلد نفسه بكرابيج الندم، فلسوف يصادف النجاح في أعماقه أولاً، وثم في نتيجة عمله وصعوده الاجتماعي من بعد ذلك. ولولا أن تريزا لوجان كانت تنطق كلماتها بحرارة، لما صدقتها، لأننا نعيش في عصر الحياة علي ضوء السيناريو السابق التجهيز. هل عند أحدكم رأي آخر؟ منير عامر