يصعد على درجات السلم درجة درجة، يريد أن يقفز، لكن هذا لا يجوز، يجب أن يظل محافظاً على المظهر العام، ينظر حيناً إلى تلك الدرجات المغطاة بتلك السجادة الحمراء، و أحياناً أخرى ينظر أمامه، هو في أبهى صوره اليوم، الشعر مصفف بعناية فائقة، بدلة جديدة غالية الثمن، ... بل باهظة الثمن، حذاء لامع ينعكس عليه أضواء الكاميرات التي يأخذ حاميليها ألاف الصور له و التي ستزين صحف الغد. حالة من الإكتئاب تسيطر عليه، طوال حياته لم يحقق أي نوع من أنواع النجاح، في دراسته كان فاشلاً، بالكاد كان ينجح بعد أن كان يستعين بمجهود بعض زملائه، عندما تخرج لم يسعفه مجموعه الصغير بالإلتحاق بكلية ذات مستقبل جيد، فكان مصيره أحد المعاهد الخاصة الغير معروف فائدة حقيقية لها سوى نهب الكثير و الكثير من أموال الطلبة... أو أموال أولياء الأمور بمعنى أصح، مع ذلك تخرج بعد عناء، و أيضاً ببعض المساعدات التي تلاقاها من زملائه. رجع إلى المنزل ينظر بشئ من الفخر إلى تلك الجائزة التي حصل عليها، تمنى كثيراً لو كان أبواه على قيد الحياة في هذه اللحظة، حتى يفتخرا بما حققه من إنجاز، من كان يصدق أن ذلك الشاب الفاشل دراسياً و المتنقل بإستمرار من وظيفة لأخرى توجد به كل هذة الطاقة الإبداعية، طاقة جعلت منه صاحب أفضل عمل أدبي لهذا العاام، عمل إنتشر بين الأوساط الأدبية كإنتشار النار في الهشيم، الكل تكلم بإعجاب عن ذلك الكاتب الناشئ الذي فجر مفاجئة بكتابته التي تغوص في أعماق النفس البشرية، أعماق لم يقترب منها أحد. بعد أن طرد من وظيفته السابقة لعدم إلتزامه بمواعيد العمل و تكرار حضوره في وقت متأخر يعمل حالياً أميناً لأحد المكاتب العامة، وظيفة يمقتها من كل قلبه فهو لا يحب القراءة، و لم يكن يتخيل في يوم من الأيام أن تجبره الظروف على العمل وسط هذه الكمية المهولة من الكتب التي لا يريد حتى أن يعلم عن ماذا تحتوي، لولا الظروف لكان قد رفض هذه الوظيفة، لكنه بعد وفاة والده لم يعد له هو و والدته أي باب رزق آخر، والده أنفق كل أمواله عليه حتى يكمل تعليمه، و جاء مرض أبيه في شهوره الأخيرة ليقضي على الأخضر و اليابس فلم يتبقى شيئ. عمله في المكتبة كان يحتوي على كثير من الملل، و قليل من العمل، و في بعض الأحيان القراءة، في يوم طلب منه أن يسجل جميع أسماء الكتب الموجودة في المكتبة على ذلك الجهاز الجديد، فأخيراً واكبت المكتبة بعد مراحل التطور عندما تقرر تسجيل أسماء كل الكتب الموجوة بها على الكومبيوتر و من ثم توصيل الجهاز بشبكة تضم جميع المكاتب العامة الموجودة في جميع المحافظات، كخطوة أولى، الخطوة الثانية أنه سيتم تحويل هذه الكتب إلى كتب إلكترونية حتى يتمكن أي شخص من قراءة أي كتاب موجود في أي مكان، من ناحية رأى أن هذه العملية ستسليه و تضيع الكثير من الوقت الذي يمتلكه بالفعل، و من ناحية أخرى سيضطر للقراءة. لم يعلمه أحد، و لم يلتحق بإحدى كليات الإعلام، كل ما في الأمر أن الموهبة الربانية هي التي فرضت نفسها عليه، و على خياله، و على حياته نفسها، أسلوبه السهل الممتنع أعجب الكثيرون، لم يكن يبحث عن شهرة أو مال أو أي مكسب شخصي، كل ما كان يبحث عنه هو ترتيب و تنظيم و تفريغ لما يدور في عقله من أفكار و إبداعات و مواقف سجلتها عيناه و حفظتها ذاكرته، لم يهتم كثيراً إذا كانت كتاباته يقرأها أحد أم أنها تذهب أدراج الرياح، هو فقط يريد أن يعبر ما يدور بداخله. تصفح الجريدة في لهفة، يتوقع أنه سيجد صورة له، ماحدث بالأمس لن يمر مرور الكرام، عشرات المصورين و آلاف الصور إلتقت له، وجدها أخيراً، صورة كبيرة له، أكبر مما كان يتصور، لم تكن بالألوان، كما كان يتصور، ترك الصورة و ذهب إلى العنوان قرأه متمنياً ألا يكون ما يقرأه حقيقة، " أجرء حرامي في التاريخ "، هذا هو العنوان الذي قرأته عيناه و نطقه لسانه و سمعه قلبه ليصرخ عقله في فزع، إنكشف أمره و ضاعت نشوة الإنتصار بعدما إستمتع بها لمدة ثلاثة أيام فقط، كانت هذه أسعد ثلاثة أيام في حياته، الآن فقط يحمد الله على أن أبويه قد ماتا، حتى لا يعيشا معه تلك اللحظات القاسية. بينما كان يسجل أسماء الكتب على جهاز الكومبيوتر الجديد لفت إنتباهه عنواناً غريباً لأحد الكتب، " كن مشهوراً في دقائق "، لا يدري لماذا جذبه ذلك العنوان، و لماذا ترك عمله ليبدأ في القراءة، هو الذي يكره من يقولون أن هوايتهم القراءة وجد نفسه بدون مقدمات بدأ يلتهم أوراق ذلك الكتاب إلتهاماً كأنه متسول رأى طعاماً بعد ثلاثة أيام من الجوع، بعد الإلتهام بدأ في التنفيذ، و التنفيذ هنا ليس الإبداع، إنما البحث عن ضحية تنطبق عليها تلك المواصفات، كان البحث مرهق لكن كانت النتيجة مرضية، ضحية مثالية يمتلك مدونة مليئة بما لذ و طاب من الأعمال الأدبية المتنوعة، كان يقرأ بعض هذه الأعمال في عجالة و كانت مع ذلك تأسر قلبه، كل ما عليه الآن هو الإختيار ... حسن الإختيار. بعد فوزه بالجائزة بثلاثة أيام تمت دعوته لحضور مؤتمر صحفي بأحد الفنادق التي تحمل على كتفها سبعة نجوم، الهدف الرئيسي من ذلك المؤتمر أو تلك الندوة هو مناقشة كتابه الذي حقق أعلى مبيعات في زمن قياسي بالنسبة لكاتب شاب مجهول الهوية، رحب بذلك، فلا بأس من مزيد من الشهرة، بينما كان يناقش الحاضرين خرج عليه شاب يسأله عن ذلك الكتاب، يستفسر عن كل كبيرة و صغيرة، نظر إلى عين ذلك الشاب و نظر الشاب إلى عينه نظرة تحمل كل معاني الصرامة، تعرفا على بعضهما البعض، فالأول هو صاحب المدونة و مبدع هذه الأفكار، و الثاني هو اللص الذي سرق بعض الأعمال و قدمها على أنها من إبداعه ليحصل بها على جائزة لم يكن يحلم أبداّ أن يلمسها، علم الحاضرين بهذه الحقيقة المفجعة، إنهال عليه الجميع بنظرات كالرصاص، و إنهال عليه المصورين بلقطات سريعة توضح إفترائه. بقلم م / مصطفى الطبجي [email protected]