أوشكت على أن أفرغ من ترجمة كتاب نشره بالإنجليزية ضابط إسرائيلى سابق بجيش الدفاع الإسرائيلى، لكنه استطاع أن يفطن مبكرًا إلى الطبيعة العدوانية الوحشية واللا إنسانية، التى يتسم بها جيش يسمى نفسه بجيش الدفاع، رغم أنه لم يَخُضْ حربًا دفاعية قط سوى فى مرة واحدة، وهى حرب أكتوبر1973، أما سائر الحروب الأخرى فهى حروب عدوانية خالصة تعددت ذرائعها، وإن كانت إسرائيل كما يقول المؤلف لا تحتاج إلى ذريعة لشن الحرب لسبب بسيط، وهو أن الحرب جزء من البنيان الأساس للأيديولوجية الصهيونية، وبدونها سوف تنتهى إسرائيل كدولة أو بالأحرى كجيش يمتزج بدولة، ومن ثَمَّ فإنه إذا لاحت ذريعة ما سارعت إلى استغلالها، وإذا لم توجد عملت على إيجادها، بحيث تبقى دائمًا فى حالة الحرب، التى هى فى الأصل مبرر وجودها وبقائها واستمرارها كرأس حربة للحركة الاستعمارية الأمريكية والأوروبية فى المنطقة. عنوان الكتاب هو: «جيش ليس كباقى الجيوش»، ملحق به عنوان فرعى هو: «كيف استطاع جيش الدفاع الإسرائيلى أن يكون أمة؟»، أما المؤلف فهو: «حاييم بريشينيت زابنر»، الذى يُحدثنا فى بداية الكتاب عن مولده ونشأته، فنعرف أنه ابن اثنين من الناجين من الهولوكوست من جنوب بولندا، اللذين، شأنهما فى ذلك شأن معظم اليهود البولنديين قبل عام 1939، تجنبا الدعوة الصهيونية، ودعما بدلًا من ذلك اتحاد العمال اليهود الاشتراكى؛ ومثل معظم اليهود الآخرين، اعتبر كلاهما البولندية واليديشية لغتهما وثقافتهما. وبعد غزو النازيين لبولندا، تم اقتياد كل منهما إلى معسكر من معسكرات الإبادة، التى تحولا فيها إلى هيكلين عظميين مرعبين، إذ بلغ وزن والدته أربعة وثلاثين كيلوجرامًا وقت تحريرها على أيدى القوات البريطانية عام 1945؛ أما والده فقد كان وزنه اثنين وثلاثين كيلوجرامًا عند تحريره على يد الجيش الأمريكى. وفى معسكر للنازحين أُقيم فى تورينو تعارفا وتزوجا فى أكتوبر 1945. ووُلد المؤلف بعد ذلك بعام فى روما بلا جنسية. وعندما فشل الوالدان فى توفير مستقر لهما فى أى مكان آخر، قررا الهجرة إلى إسرائيل فى مايو 1948، وهو الخيار الذى لم يكن ليخطر ببالهما لولا ذلك. وعلى متن السفينة رفض والده الخضوع للتدريب على استخدام الأسلحة، فبعد كل ما مر به، لم يكن مستعدًّا لإراقة الدماء، سواء دمه أو دم أى شخص آخر. ومن ثَمَّ فقد أُلقى القبض عليه فور وصوله إلى حيفا باعتباره رافضًا للتجنيد؛ وربما كان أول، أو على الأقل أحد أوائل الرافضين للخدمة العسكرية لأسباب تتعلق بالضمير، وأما الأم فقد سُجنت مع طفلها فى معسكر أثليت، وهو معسكر سجن أقامته سلطات الانتداب، ثم استُخدم لإيواء المهاجرين. ونعود إلى والده، الذى أدرك أنه قد يقضى سنوات فى السجن، إذا أصر على موقفه، ومن ثَمَّ وافق على العمل مسعفًا أعزل، وأُرسل إلى واحدة من أسوأ المعارك فى عام 1948، فى منطقة اللطرون، حيث لقى نحو 2000 إسرائيلى حتفهم، معظمهم من الناجين من الهولوكوست؛ لكنه كُتبت له النجاة، وعاد إلى جباليا، التى شب فيها المؤلف، وهى بلدة صغيرة حديثة مجاورة ليافا، تم إخلاء سكانها العرب بالقوة، ولم يتمكن سوى عدد قليل منهم من البقاء، حيث كانوا يعيشون جنبًا إلى جنب مع الناجين من الهولوكوست، أولئك الذين تم توطينهم فى منازل كانت تملكها عائلات عربية، وبالتالى تم تطعيم ذكرى الهولوكوست بالقوة بالذاكرة الوطنية الفلسطينية، وربط الهولوكوست للشعب اليهودى (معظمهم من اليهود البولنديين) بالنكبة الفلسطينية. كان الناجون من الهولوكوست يعيشون جنبًا إلى جنب مع الناجين من النكبة، وكان أطفالهم يدرسون فى نفس المدرسة: «الأحمدية»، وكان أبناء الناجين يدرسون باللغة العبرية، ولكنهم تعلموا اللغة العربية أيضًا، وفيما يرويه المؤلف أنه عندما تم نقله إلى مدرسة دينية، وجد أن الأولاد العرب كانوا مضطرين إلى البقاء فى المدرسة لأداء الصلوات العبرية اليومية- وهى عقوبة غريبة على جريمة تتمثل فى كونهم أغيارًا أو آخرين. وعندما أتم المؤلف دراسته، تم تجنيده فى عام 1964 وتدريبه للعمل ضابطًا، وبعدها تم تعيينه فى إحدى وحدات القتال النظامية القليلة، لواء مشاة جولانى، برتبة ملازم ثانٍ، وهنا يروى لنا المؤلف واقعة مروعة حدثت فى حرب 1967 عندما كان يتلقى البلاغات فى غرفة عمليات اللواء.. يقول: «عندما انتهت المعركة، سمعت صوت أحد قادة الكتائب وهو يسأل الضابط القائد، الذى كان يقف بجانبى، وكان صوته مرتجفًا ينبعث من مكبرات الصوت المعدنية: «لدىَّ 200 أسير حرب. ماذا أفعل بهم؟». ولم يتلقَّ أى إجابة من الضابط القائد، الذى زأر فى وجوهنا: الأحمق، ألَا يعرف ماذا يفعل بهم؟، هل يجب أن أخبره؟. لا أحد يجيب عن هذا الأحمق؟، هل تسمعون؟.. توقفت أجهزة الإرسال عند بعض الطلبات الإضافية، وأدركت عندئذ مدى هول ما حدث، وتبَدّت لى واضحة ومفزعة- أكثر من أى وقت مضى- حقيقة هذا الجيش، الذى يزعم أنه أكثر الجيوش أخلاقية فى العالم. وربما كان للحديث بقية.