معظم ميزانية الداخلية تنفق علي أجور ورواتب رجالها علي مدار سنوات وربما عقود لم تكن فيها الشرطة في خدمة الشعب ولا حتي سيادة القانون وإنما كانت فقط أداة لخدمة نظام فاسد.. تكثف جهدها وطاقة ضباطها ورجالها لتأمين مواكب التشريفات.. بينما لم يعد تأمين حياة المواطن يحتل أدني مكانة علي أولويات اهتمامها.. تغض الطرف عن لصوص الأراضي وناهبي أموال البنوك فيتمكنون من الهروب بينما تتحول إلي عصا غليظة لمواجهة صغار اللصوص والنشطاء السياسيين ومعارضي النظام بالتعذيب الممنهج الذي يمارسه أهلها لتقوم بهذه المهمة بالوكالة عن دول أخري علي رأسها الولاياتالمتحدة التي أرسلت المتهمين في أحداث سبتمبر 1002 إلي السجون المصرية ليقوم المسئولون عنها بالواجب!! ولم يتوان رجال الشرطة عن شن الحملات التي تستهدف السياسيين بينما تركوا الحبل علي الغارب لمثيري الفتن وتجار الأغذية الفاسدة والمسرطنة. فقد الكل الثقة فيهم، فساد قانون الغاب.. وزادت جرائم البلطجة والسرقة بالإكراه. كثف رجال الشرطة جهدهم لحماية النظام بينما فقد الشعب الإحساس بالأمن والأمان. أوجه القصور تلك لايرصدها فقط ثائر ولاناشط حقوقي وإنما تأتي أيضا موثقة في العديد من الدراسات.. من بين هذه الدراسات الهامة التي تعرضت لهذه القضية الخطيرة دراسة الأمن في مصر والتكلفة والعائد وآفاق المستقبل (للباحث أحمد خليل الضبع الخبير في الشئون التنموية) الذي قدمها للمركز الدولي للدراسات السياسية والاستراتيجية. الجديد في تلك الدراسة هو تركيز الباحث علي المفارقة والتناقض الرهيب بين القصور والتقصير الذي يعاني منه جهاز الشرطة في تحقيق الأمن وبين النفقات الباهظة التي تتحملها الدولة وتخصصها له. 58 مليار جنيه سنويا تتكلفها خزانة الدولة وتنفقها علي الشرطة.. يتحمل منها المواطن ألف جنيه سنويا أي مايوازي ربع دخل 04٪ من الشعب المصري الذي يقل دخله عن دولارين يوميا. فحجم الإنفاق المصري علي جهاز الشرطة يزيد خمسة أضعاف ماتنفقه الولاياتالمتحدة نفسها عليه. هذا الاختلال الرهيب بين حجم ما تنفقه الدولة علي الشرطة وبين تقصير الجهاز عن القيام بدوره يتطلب إعادة هيكلة ليس فقط للموارد البشرية للشرطة وإنما أيضا لمواردها المادية أيضا لتصبح بحق في خدمة الشعب، وأمنه وليس لخدمة النظام. فشعار الشرطة في خدمة النظام الذي تبنته الشرطة علي مدار سنوات فيه يكمن السبب الرئيسي لانهيار هذا الجهاز في الثامن والعشرين من شهر يناير 1102 عقب اندلاع الثورة، وبالتالي فإن أي محاولة للإصلاح الحاد تتطلب أن نضع أيدينا علي مواطن الخلل وتحديد أوجه القصور حتي نعيد الشرطة إلي مهمتها الأساسية لتكون جهازا في خدمة الشعب وليس في خدمة الحاكم. أول ما يلفت النظر عند تحديد مواطن الضعف في جهاز الشرطة كما حددتها الدراسة هو زيادة النفقات التي تتحملها الدولة وتخصصها للشرطة في مقابل ضعف وقصور في الأداء لايتناسب مع هذه التكلفة الضخمة. تشير التقديرات إلي أن الشرطة تكلف مصر مايقرب من 58 مليار جنيه سنويا منها 71 مليار جنيه نفقات مباشرة مدرجة في الموازنة العامة ومايقرب من 23 مليار جنيه تكاليف غير مباشرة منها عوائد ومزايا شبه رسمية تحصل عليها الشرطة كمؤسسات وأفراد ليس هذا فقط بل ويضاف إلي ذلك أيضا 63 مليار جنيه تكلفة خسائر المجتمع نتيجة لقصور أداء الشرطة في القيام بواجباتها. وفق هذه المبالغ الضخمة تصل جملة ما يتحمله المواطن سنويا إلي ألف جنيه وهو ما يمثل ربع دخل 04٪ من الشعب المصري الذي يعيش علي أقل من دولارين يوميا. وفي المقابل لا يحصل المجتمع المصري علي عائد مادي أو معنوي يتناسب مع هذا الإنفاق الضخم، فإيرادات الشرطة في الموازنة لاتتجاوز 205 مليون جنيه سنويا ولا تسهم سوي بأقل من 3٪ من النفقات المباشرة. إضافة إلي الخسائر الناجمة عن تردي الحالة الأمنية. هذه المعادلة غير المتكافئة بين ما يتم إنفاقه علي الشرطة وبين العائد الهزيل الذي يعود علي المجتمع منه يتضح بصورة أوضح مقارنته بالدول الأخري خاصة المتقدمة منها والتي تنفق علي جهاز الشرطة مبالغ أقل بكثير من التي تخصصها مصر لجهازها الأمني. فبينما يبلغ الإنفاق المباشر علي الأمن في مصر 8.2 مليار دولار فإن إجمالي الدخل المخصص للشرطة يصل إلي 2.1٪ من حجم هذا الإنفاق بينما تصل النسبة التي تخصصها الولاياتالمتحدة لجهازها الشرطي إلي .3٪ فقط.. وبينما تنفق مصر 04 ألف دولار سنويا لتأمين كل كيلومتر مربع من مساحتها التي تبلغ 07 ألف كيلو متر مربع أي أكثر من ثلاثة أضعاف ما تنفقه الولاياتالمتحدة، أيضا تنفق مصر 1.1٪ من دخل الفرد السنوي علي هذا الجهاز وهو مايزيد خمسة أضعاف ما تخصصه الولاياتالمتحدة. وتبلغ قيمة ما يتم إنفاقه علي بند الأجور والرواتب فقط 31 مليار جنيه أي تشكل حوالي 67٪ من إجمالي ميزانية الداخلية. والتفاصيل التي تحملها لنا الأرقام التي استعرضتها الدراسة تشير إلي زيادة حجم الإنفاق علي جهاز الشرطة في مصر.. فوفق الميزانية المعلنة (1102 2102) فإن إجمالي ما تنفقه الحكومة علي جهاز الشرطة سنويا يصل إلي 71 مليار جنيه يخصص منها 12.15 مليار جنيه أي حوالي 27٪ من إجمالي إنفاق وزارة الداخلية لمصلحة الأمن والشرطة.. وتبلغ نفقات ديوان عام الوزارة مايزيد علي 1.4 مليار جنيه أي ربع الميزانية.. إضافة إلي 9.1 مليار جنيه مخصصة لأجور ورواتب العاملين بالديوان. وفي المقابل تبلغ قيمة ماتنفقه مصلحة السحون بجميع مرافقها وسجونها والعاملين بها والمسجونين 7.666 مليون جنيه منها 043 مليون جنيه مخصصة لشراء السلع والخدمات، معني ذلك أن رواتب العاملين في ديوان عام الوزارة يوازي ستة أضعاف ما يتم تخصيصه للصرف علي المسجونين والمقدر عددهم مابين 56 و58 ألف مسجون موزعين علي 52 سجنا مركزيا إضافة إلي عدد من السجون الأخري علي مستوي الجمهورية. معني ذلك أن معظم ميزانية الوزارة يتم إنفاقها علي الأجور والرواتب حيث تصل جملة الإنفاق علي هذا البند وحده إلي 31 مليار جنيه. ومن قبيل المغالطة أن نحمل السبب في قصور جهات الشرطة عن تحقيق مهامه إلي قلة الأعداد، بل علي العكس هناك حالة من التضخم من حجم تلك العمالة فهناك مايقرب من 719 ألف فرد يعملون به وهو مايشكل 2.61٪ من إجمالي العاملين بالحكومة كما يصل حجم العاملين في جهاز الأمن وحده إلي 52.1 مليون فرد إضافة إلي الأمن المركزي وفرق الأمن والمرشدين والمتعاونين. وهو ما يؤكد أن مشكلة جهاز الأمن في مصر لاتكمن في قلة الموارد المادية أو البشرية بل في توزيع وكفاءة استخدام تلك الموارد. والنتيجة زيادة حجم الخسائر الإجمالية للجرائم والمخالفات لتصل إلي 0021 مليار جنيه سنويا لتبتلع أكثر من 03٪ من الناتج المحلي يتحمل جهاز الشرطة جزءا من المسئولية عن إهدار هذه الأموال فالجهاز مسئول عن إهدار 03 مليار جنيه نتيجة لتقصيره في أداء مهامه علي عدة مستويات أولها مايتعلق بجرائم الفساد وتهريب السلع للداخل بدون جمارك وسرقة وتهريب الآثار وبيعها في الخارج والتلاعب في الأسواق والاستيلاء علي المال العام والتهاون في تحصيل مستحقاته من رسوم وغرامات تصل إلي مليارات الدولارات وكلها نتيجة القصور في أداء الأجهزة الرقابية وفي مقدمتها الأجهزة الأمنية المختصة بهذه المهمة. أيضا هناك خسائر أخري تلحق بقطاعات الدولة المختلفة نتيجة لقصور جهاز الأمن منها ما يتكبده قطاع السياحة من خسارة وصلت إلي 3 مليارات دولار في عام واحد فقط 79 بعد وقوع مذبحة الأقصر التي راح ضحيتها 05 سائحا أجنبيا. وتبعته خسائر أخري توالت مع تكرار حوادث الإرهاب واستمر نزيف قطاع السياحة بعد ثورة 52 يناير نتيجة لانهيار جهاز الشرطة وانسحابه من أداء مهامه وهو ماترتب عليه خسائر شهدها قطاع الاستثمار أيضا والذي شهد توقفا شبه تام لتدفق الاستثمارات الأجنبية. إذا أضفنا إلي جملة هذه الخسائر مالحق بالمنشآت والمؤسسات العامة والخاصة نتيجة لتفشي جرائم السرقة والنهب والاحتيال يتضح لنا حجم تقصير الشرطة في القيام بواجبها ومدي ما تحملته الدولة من تكلفة ونفقات جراء هذا التقصير.. حيث بلغت قيمة هذه الخسائر 6 مليارات دولار سنويا. تتحمل الدولة هذه الخسائر رغم ما يتم إنفاقه علي جهاز الشرطة والذي يزيد خمسة أضعاف ما تنفقه دولة غنية مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية. حيث تنفق مصر 04 ألف دولار سنويا لتأمين كل كيلومتر مربع من مساحتها المستغلة والتي تبلغ 07 ألف كيلو متر مربع وهو مايزيد عن ثلاثة أضعاف ما تنفقه الولاياتالمتحدة، أيضا تنفق مصر 13 دولاراً سنويا لتأمين كل فرد علي أرضها وهو ما يزيد خمسة أضعاف ما تنفقه الولاياتالمتحدة. وبشكل عام يمكن القول إن مصر تنفق 6٪ من إجمالي دخلها القومي علي الأمن وهو ما يزيد 12 ضعفا عما تنفقه الولاياتالمتحدة. والمؤسف أن هذه المبالغ الضخمة لايقابلها أداء متميز بل علي العكس هناك تقصير واضح في أداء الشرطة وهو ما يؤكده العديد من التقارير والدراسات وكذلك بشهادة رجل الشارع وكذلك الزائر الأجنبي الذي يشعر بهذا التقصير فارتفاع معدلات الجريمة أمر لايخفي علي أحد، وأحد أهم الأسباب وراء ذلك هو سيادة منطق وقانون الغاب لاسترداد الحقوق نظرا لفقد الثقة في قدرة الشرطة علي قيامها بهذه المهمة وتقاعسها في كثير من الأحيان عن تسجيل المحاظر، ومتابعة الجرائم.. وهو ما أدي إلي تفشي الظواهر الإجرامية من بلطجة وسرقة بالإكراه والتعدي بالسب والتحرش الجنسي، إضافة إلي ذلك قيام ضباط الشرطة أنفسهم بارتكاب العديد من الجرائم وأخطرها التعذيب بشكل منهجي وروتيني ضد المواطنين، إضافة إلي قيام جهاز الشرطة بالتعذيب بالوكالة عن دول أخري كالولاياتالمتحدة. وفي الوقت الذي يتم فيه ممارسة هذه الجرائم بشكل ممنهج يقف الجهاز بكل قوة أمام أي محاولة لتعديل قانون الشرطة بما يتفق مع تعريف الأممالمتحدة كما يمنع حق ضحايا التعذيب في اختصام من قاموا بارتكاب هذه الجريمة ويحرمهم من حق التقاضي ويحصر هذه السلطة في يد النيابة العامة.. والأمثلة علي مساندة الشرطة لضباطها ضد أي اتهام أو محاكمة لاتخفي علي أحد ولنا في البراءات التي يحصل عليها الضباط المتهمون بقتل المتظاهرين أكبر دليل علي ذلك. فبينما وقع ألف شهيد وسقط آلاف من الجرحي والمصابين خلال ثورة 52 يناير لم نر أي ضابط يعاقب علي هذه الجريمة وكأن هؤلاء فوق المساءلة. ليس هذا فقط فهناك حالات من الاختفاء القسري للعديد من المعتقلين لايعرف أحد مصيرهم حتي الآن وهي جريمة أخري تضاف إلي جملة الجرائم التي يرتكبها جهاز الشرطة في حق المواطن. هذا بالإضافة إلي قيامه بعمليات القبض والمداهمة العشوائية والاحتجاز التعسفي الموسع ودون العرض علي أي جهة قضائية.. بل ويحدث أن يتم احتجاز عائلات بأكملها كرهائن لإجبار المطلوبين علي تسليم أنفسهم. وبالطبع يلعب قانون الطوارئ دورا كبيرا في منح جهاز الشرطة الشرعية فيما يرتكبه من جرائم حيث يسمح له بالاعتقال الإداري بشكل تعسفي دون اتهام أو محاكمة.. ودفع الكثير من المواطنين أعمارهم نتيجة لهذا التعسف، فهناك من قضي أكثر من خمسة أعوام من عمره في الحبس دون أن يقدم للمحاكمة ودون أن يعرف حتي ما هي التهمة الموجهة إليه. الشرطة إذن علي مدار سنوات طويلة بل وعقود طويلة لم تكن في خدمة الشعب وإنما كانت فقط لخدمة النظام وحمايته بل وحماية الفاسدين من المرضي عنهم وأكبر دليل علي ذلك آلاف الهاربين من تنفيذ الأحكام وآلاف المؤسسات المخالفة وآلاف الجرائم التي تستبيح أراضي الدولة وتنهب المال العام وتسرق أموال البنوك وفجأة تهرب للخارج لتصبح الأحكام القضائية التي اتخذت ضدها مجرد حبر علي ورق. هي بالطبع مشكلة خطيرة فلاشك أن انهيار جهاز الشرطة وتقصيره في أداء مهمته وانسحابه من الشارع وكذلك القصور والسلبيات التي يعاني منها هذا الجهاز العام كل ذلك يدعو بالطبع للدعوة لإعادة هيكلته ربما تبدو الخطوات المبذولة الآن غير كافية ويحاول الضبع في دراسته أن يضع خطة ناجعة لإعادة هيكلة الشرطة والتي تتضمن محورين أولهما يتعلق بخطة الانتشار الأمني السريع والثاني يتعلق بإعادة هيكلة شاملة وجذرية لجهاز الأمن. وبالنسبة لخطة الانتشار الأمني السريع توصي الدراسة بتشكيل مجلس أعلي للأمن القومي برئاسة رئيس مجلس الوزراء وعضوية وزراء الداخلية والدفاع والعدل والتنمية المحلية والإعلام والمخابرات لدراسة الوضع الأمني في مصر وتطويره في المرحلة المقبلة. أما فيما يتعلق بالإطار التشريعي اللازم لإعادة هيكلة جهاز الشرطة فأولي المهام هنا هو تعديل القانون 901 لسنة 17 بما يتواءم مع الإصلاحات المطلوبة لجهاز الشرطة وبما يتماشي مع الاتفاقات الدولية وخاصة التي تتعلق بحقوق الإنسان. أيضا من المهم العمل علي تحويل تبعية مديريات الأمن إلي المحافظين. إضافة إلي اعتماد نظام الأوامر الموثقة كتابيا وإلكترونيا من القيادة بهدف إعادة الانضباط وتجريم الأوامر المخالفة للقانون وسهولة تحديد المسئوليات وإجراءات المحاسبة. يبقي بعد ذلك العمل علي إعادة هيكلة كوادر الشرطة من ضباط وأفراد أمن، وإنهاء خدمة كل من يثبت القضاء ارتكابه لجرائم التعذيب أو الفساد أيضا مطلوب ضخ دفعات جديدة من خريجي كليات الحقوق للالتحاق بكلية الشرطة بمعايير قبول تراعي الكفاءة والالتزام والانضباط الخلقي والقانوني. كل ذلك بهدف صياغة عقد اجتماعي جديد مابين الشعب والشرطة لاستعادة الثقة بين الطرفين.. المهمة بالطبع صعبة لكنها ليست مستحيلة لو توفرت الإرادة.. فهل تستجيب وزارة الداخلية للأيادي الممتدة والعقول الراغبة في الإصلاح.. الكرة في ملعبها الآن والكل في انتظار إحراز الهدف.