فى أحد مقالات كتابها «أسئلة ملحة»، تحكى الروائية الكندية مارجريت آتوود عن رحلة تلقى روايتها «حكاية الجارية»، وكيف اختلف من فترة زمنية لأخرى، ومن مكان لآخر، فتشير إلى أن الاستقبال الأول لها كان فاترًا، بل معاديًا أحيانًا خاصة فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، فقد وصمت المراجعة المنشورة فى النيويورك تايمز الرواية باللامنطقية وعدم الإقناع. وأن تُنشَر مراجعة سلبية عن كتاب ما فى النيويورك تايمز معناه، بحسب آتوود، الحكم عليه بالموت وتهرب الناشرين من مؤلفه، ما يعنى انعدام فرصه فى النشر مستقبلًا. ثم مع الوقت، نجحت الرواية فى فرض نفسها، ونالت الجوائر والتكريمات واتسعت دائرة مقروئيتها، ثم جاءت فترة حكم ترامب وصعود اليمين فى كثير من دول العالم لتتحول «حكاية الجارية» إلى عمل كلاسيكى معاصر ويُنظَر إليها باعتبارها رواية استشرافية نجحت فى اختراق حجاب المستقبل. يتكرر هذا الأمر كثيرًا، وإن تأملنا تاريخ الأدب سنجد حالات لا تعد لأعمال انتقلت من غياهب النسيان إلى بؤرة الضوء بعد وقت طويل من صدورها، وسنجد العكس أيضًا، إذ ثمة روايات نالت احتفاءً كبيرًا بمجرد صدورها ثم غابت لاحقًا واندثر ذكرها. لكننا إن حاولنا أن نخرج بأسباب هذا التفاوت فى التلقى سلبًا أو إيجابًا قد لا نصل إلى نتائج حاسمة، فالعوامل والأسباب تتغير من حالة لأخرى. وإذا استدعينا حالة قريبة نسبيًا، مثل ما حدث من استعادة لرواية «ستونر» للروائى الأمريكى جون ويليامز، سنجد أن الترجمة إلى الفرنسية كان لها كبير الفضل فى النجاح الساحق الذى حققته الرواية بعد مرور عقود على صدورها ومرور قرابة عقدين على وفاة مؤلفها. فحين صدرت لأول مرة عام 1965 باعت حوالى 2000 نسخة وقوبلت بصمت شبه تام من الصحافة الثقافية، لكن قبل عقد تقريبًا انفجرت شهرتها لتحتل قمة قوائم الأفضل مبيعًا على امتداد أوروبا؛ من فرنسا إلى بريطانيا، وإيطاليا وأسبانيا وهولندا. كانت منشورات «فنتدج» قد أعادت نشر «ستونر» فى بريطانيا فى 2003 ولم تلفت انتباهًا كبيرًا، كما نشرتها «نيويورك ريفيو أوف بوكس» فى 2006، ولكن الرواية تلقت قُبلة الحياة حين ترجمتها الروائية الفرنسية أنا جافالدا إلى الفرنسية، ومن فرنسا انطلقت رحلة «ستونر» كرواية شديدة الرواج. اهتم كثيرون وقتها بتحليل أسباب عدم نجاح «ستونر» وقت صدورها، ورأوا أنها ربما لم تكن مناسبة لفترة الستينيات، حيث كان جيل الغضب هو العنوان الأبرز لمرحلة كاملة، وحيث الصخب وال«روك أند رول» والهوس بالتمرد والانعتاق والوصول إلى الحافة سواء فى النجاح الباهر أو السقوط المدوي، و«ستونر» قصة أستاذ جامعة عادى فى إخفاقاته. وبالمثل اهتم كثيرون بمحاولة فهم أسباب تحولها المفاجئ إلى ظاهرة فى عالم النشر، متسائلين عن عدد الروايات المنسية والمتروكة لغبار أرفف المكتبات، والتى بإمكانها تحقيق نجاح مشابه. والرغبة فى إنقاذ أكبر عدد ممكن من الكتب المهمة من الضياع فى مجاهل النسيان وإلقاء الضوء عليها، شيء ضرورى جدًا، ولن أبالغ إن اعتبرته يمثل مغزى حِرفة النشر كما ينبغى أن تكون. ولعلّ أحد أهم الناشرين الذين نجحوا فى الوصول بهذه الحِرفة إلى أرفع مستوياتها هو الناشر والكاتب الموسوعى الإيطالى الراحل روبرتو كالاسو - الذى يقدم الكاتب والمترجم أحمد الزناتى كتابه «صنعة الناشر» لقراء أخبار الأدب فى هذا العدد - فإضافة إلى أهمية كالاسو كمفكر وكاتب موسوعي، كان له كناشر الفضل فى إعادة اكتشاف جواهر أدبية منسية والمساهمة فى نجاحها وإلقاء الضوء عليها عالميًا، وليس على مستوى إيطاليا وحدها. ومن أبرز الأمثلة على هذا، دوره فى إعادة اكتشاف الروائى المجرى العظيم شاندور ماراي، بعد أن طواه النسيان لقرابة الخمسة عقود. إذ بالصدفة فوجئ كالاسو بوجود رواية لماراى فى كتالوج دار نشر فرنسية صغيرة، واندهش لأنه لم يكن قد سمع به من قبل رغم تخصصه فى أدب شرق ووسط أوروبا. قرأ كالاسو الرواية وعرف من الصفحات الأولى أنه عثر على كنز أدبي، فاتصل بأصدقائه من المحررين فى أهم دور النشر فى العالم ودعاهم إلى عشاء عمل على هامش معرض فرانكفورت، قدم لهم خلاله أعمال ماراى وحثهم على ترجمتها ونشرها، وهو ما حدث فعلا. كان ماراى قد اضطر إلى مغادرة وطنه بعد الحرب العالمية الثانية، بسبب معارضته للنظام الشيوعى الذى حكم المجر، وفى المنفى وجد نفسه أمام خيارين: أن يكتب بالإنجليزية التى يجيدها، أو أن يستمر فى الكتابة بلغته المجرية مع متغير جديد مفاده أن كتبه ممنوعة من النشر أو التوزيع فى مسقط رأسه. اختار ماراى الكتابة للفراغ بلغته الأم فى غياب شبه كامل لقرائه. فعل هذا لأنه خشى إن كتب بالإنجليزية أن ينزلق إلى تفصيل كتاباته على مقاس ذائقة أجنبية تبحث فيها فقط عن هجاء للشيوعية أو تنظر إليها كوثيقة اجتماعية عن بلد يقبع خلف الستار الحديدى للكتلة الشرقية. دفع صاحب «كازانوفا فى بولزانو» عقودًا من العيش فى ظل النسيان والتجاهل ثمنًا لاختياره هذا، وربما لم يتخيل مطلقًا، وهو يطلق رصاصة على رأسه فى سن التاسعة والثمانين هربًا من المرض والاكتئاب والوحدة، أن أعماله سيُعاد اكتشافها بعد سنوات قليلة من انتحاره لتُترجم للغات عديدة وتلقى ما تستحقه من تقدير لتضعه، فى مصاف أهم كُتَّاب العالم فى القرن العشرين، بفضل إخلاص كالاسو لمهنته وتقديره للأدب العظيم، بمعزل عن أى شىء آخر.