في حوار بين الكاتبين الأمريكيين ويليام جيرلدي وتشارلز ج. شيلدز عن جون ادوارد ويليامز، قال جيرلدي: "قيام جون ويليامز من المجهول لايزال أمرا مدهشاً. أرتاب دائما من الحركات الأدبية التي تحتفي بالأذواق الباهتة، ولكن إعادة إحياء ويليامز يعد شيئاً ممتعاً لأقصي درجة، مثل الشعور، أخيراً، بتحقيق عدالة لم يشهدها من قبل. وبمجرد دخولك في عالمه الروائي خاصة رواية "أغسطس"، تجد بناءً سردياً لخبير محترف غير عابيء بالمواجهة مع آلام وخلاص الحياة البشرية". وبادله شيلدز الرأي قائلا: "أتذكر ما حدث لملفيل كمثال، لقد رحل وهو مجهول تماما حتي إن أكثر من صحيفة من نيويورك كتبت في نبأ وفاته "جيل القراء الحالي لن يكون مُطلعاً علي اسم هرمان ملفيل، ولكن مر وقت كانت أعمال الكاتب مشهورة علي نطاق واسع". ولم تحدث إعادة إحياء لأعمال ملفيل إلا بعد مرور 45 عاماً علي وفاته. لم يكن ويليامز مجهولاً تماماً عندما رحل عام 1994 ولكنه لم يرَ شيئاً خلال حياته مثل الإهتمام الحالي برواياته. ولقد استحضرت الصلة بين ويليامز وملفيل الآن لسبب آخر؛ أنت ذكرت شيئاً عن البناء السردي لخبير محترف، لقد قمت، علي سبيل التجريب، بتنظيم أقصر فصول موبي ديك في شعر حر وكم كان هذا رائعا. لقد كان ويليامز ضمن ذلك النوع من المحترفين أيضاً. وأخبرتني الكاتبة الأمريكية روكسي مونرو تلك النكتة: في مساء ما أثناء تناولنا العشاء، سألت ويليامز: "كيف كان يومك، جون؟". وكانت إجابته: "كان يوماً عظيماً، لقد كتبت ثماني جمل مثالية". وهذا يلخص بطريقة ما سبب انعزال ويليامز بدلاً من خوضه الحياة". في واحدة من الحالات النادرة الشيقة لتحقيق العدالة الأدبية المتأخرة، أصبحت رواية "ستونر" للكاتب الأمريكي جون ويليامز في أعلي قائمة الأعلي مبيعاً في أوروبا، بعد أن قدمتها وقامت بترجمتها الكاتبة الفرنسية أنا جافلدا. وكذلك كتبت الناقدة موريس ديكستين مقالاً عنها في جريدة نيويورك تايمز ولكنها، رغم ذلك، لم تحظ بالانتشار الواسع في الولاياتالمتحدة. رواية "ستونر" بلا أدني شك رواية عظيمة، ولكن يمكننا أن نتفهم لماذا هي ليست المفضلة لدي الأمريكيين. يمكنك ببساطة وصفها علي إنها المضادة لجاتسبي. فرغم أوهام جاتسبي ونهايته السيئة إلا إننا جميعا نعتقد، بسرية، في جماله. لم يره الأمريكان حقا كبطل-ضد أو كشخصية تراجيدية، ولكنهم رأوه كمجرم لديه كاريزما مثل الذين يشاهدونهم علي شاشة التليفزيون. فقصة جاتسبي الناجحة تتلخص في إنه كون ثروته التي بلغت ملايين الدولارات وامتلك قصراً وأقام به الحفلات الضخمة كما استطاع أن يحصل علي فتاة أحلامه ولو لفترة قصيرة. أما "ستونر"، بطل رواية ويليامز، فغير وسيم، أكاديمي يعمل بكد ويسير زواجه بشكل سييء، وتم ابعاده عن طفلته، وكدح في حياة وظيفية بلا مستقبل ثم مات وتم نسيانه: إنه الفشل. إنها ليست رواية تقع في مدينة الأحلام ولكنها تقع في قلب العفن. كما إنها تبدو ظاهريا رواية أكاديمية، كيوميات تاريخية حصرياً للأكاديميين. وذات قيم قديمة الطراز، مثل قيم ما قبل الحرب وتتمسك بالضمير كأعظم الفضائل والثواب في الحياة. أما نثرها، فبالمقارنة مع غنائية فيتزجيرالد، فإنه صارم ومنضبط ودقيق؛ حيث طلاؤه أقل بهرجة، وتوهجه أكثر بقاءً من خشب صلب مصقول، فبناؤها لا تشوبه شائبة مثل هذا النوع من المنازل الذين لا يعرفون كيف يبنون مثله مرة أخري. تستهل ستونر بمقدمة صغيرة تصف باقتضاب حياة وموت أستاذ مساعد في اللغة الإنجليزية غير محبوب بإحدي الجامعات المحلية. والدليل الوحيد علي وجوده هي مخطوطة من القرون الوسطي تبرع بها زملاؤه إلي المكتبة باسمه. وتختتم المقدمة: "قد يتساءل الطالب غير النظامي، متفرجا، الذي صادف الاسم عن من كان ويليام ستونر، ولكنه نادرا ما اهتم باتباع فضوله أبعد من مجرد سؤال عابر. زملاء "ستونر" الذين لم يمنحوه تقديراً خاصاً أثناء حياته ، نادراً ما يتحدثون عنه الآن؛ كبار السن يرون إنه تذكير بالنهاية التي تنتظرهم، أما الشباب فيعتبرونه فحسب صوتاً لا معني له من الماضي، حتي إنه لا يمثل تلك الهوية التي تستحق ربط أنفسهم أو وظائفهم بها". وبهذا جعلنا ويليامز نتساءل عن: ماذا سيكون الكتاب؟ فطموحه يتجلي في تواضع موضوعه: مثل رباعية الكاتب الأمريكي جون أبدايك "رابت"، إنها ليست شيئاً أقل أو أكثر من قصة حياة. كما أن هناك شيء ما في تلك الفقرات الأولي، نثر غير متعال، مثل الملاحظات الافتتاحية الناعمة لفنان مبدع، وهذا يخبرنا إننا في صحبة كاتب عظيم أو أكثر، إنه شخص يعرف الحياة، أو بالأحري يفهمها. إنه نفس الأمر الذي قد تستشعره من قراءتك لجميس سالتر: حضور الحكمة. والحكمة بالطبع ما هي إلا موضة قديمة. وبالرغم من سهولة النص، إلا أن ستونر ليست رواية سهلة القراءة. ليس بسبب إنها مكثفة ومبهمة ولكن لإنها مؤلمة. فلقد نجح ويليامز في حرمان بطله بالقوة من السعادة في زواجه ومع ابنته ومع حبيبته وحتي في وظيفته. وكان هذا قسوة مفرطة مثل نزوة مهلكة للآلهة في أعمال المسرحي اليوناني يوربيديس.
تم تجاهل "ستونر" عند نشرها عام 1965، ولكن أبقاها المتحمسون علي قيد الحياة بإعادة النشر كل عشر سنوات تقريبا في محاولة لإعادة اكتشافها، مثلما فعل الكاتب الأمريكي ارفينج هو في مجلة الجمهورية الجديدة عام 1966، والكاتب البريطاني تشالز برسي سنو في جريدة فاينانشال تايمز عام 1973، والكاتب الأمريكي دان واكفيلد بمجلة بلاوشيرز عام 1981 وستيف ألموند بمجلة تن هاوس عام 2003. وطالما تساءلوا: لماذا لم يسمع أحد عن هذه الرواية من قبل؟ واستمر سنو في التساؤل لوقت طويل. والآن بجانب رواية ستونر، فإن روايته الثانية، "تقاطع بوتشر" التي نُشرت عام 1960، متوافرة كذلك في طبعة جديدة أنيقة نشرتها مجلة نيويورك ريفيو بوكس. كلا الروايتين تستحقان القراءة علي نطاق واسع، ولكن ظلاميتهما ورؤيتهما الضبابية تثيران التساؤلات حول إذا كان من الممكن توقع هذا. ولكن إلي أي مدي كان ويليامز مجهولا؟. عندما نشرت ستونر عام 1965، كالعادة تأرجحت بين مخاوف الروائي وآماله. حينها تمت مراجعتها باحترام، لم تكن الأعلي مبيعا ولكنها باعت عدداً معقولاً، ونفدت كل طبعاتها. وفي عام 1972 فازت روايته الرابعة "أغسطس" بنصف الجائزة الوطنية للكتاب (والنصف الآخر ذهب إلي رواية الوهم للكاتب جون بارت). وقد كان هذا الوقت من أكبر نجاحاته ومع ذلك لم يحضر حفل التكريم، ربما كان مرتابا، كما لو أن المدح الذي يعلن ما هو إلا استخفاف به. بعد ذلك التكريم بعشرين عاماً، بدون نشر أي أعمال أدبية أخري له، نشرت نيويورك تايمز خبر موته ونعته كشاعر وكمعلم بجانب كونه روائياً. ولكن نأتي للعامل الذي خافه ويليامز كثيرا وكتب عنه في خطاب لناشره، وهو الوقت. فبعد مرور الكثير من الوقت، بعد خمسين عاماً من تاريخ كتابة ويليامز لهذا الخطاب، أصبحت ستونر من أعلي الكتب مبيعا عبر أوروبا. وهذا ما لم يكن متوقعا أبدا، وهذا ما لا يفهمه الناشرون أنفسهم.
ولد ويليامز في شرق تكساس عام 1922 ووقع في غرام الأدب أثناء دراسته الثانوية. كان أجداده مزارعين، وكان زوج أمه يعمل حارساً في مكتب البريد المحلي. امتهن أعمالاً كثيرة مختلفة بعد سقوطه بالجامعة، ثم خدم في الجيش الأمريكي في الهند وبورما بالحرب العالمية الثانية، وأثناء تلك الفترة كتب رواية مبتدئة في وقت فراغه. ثم سمح له برنامج حكومي، يقدم امتيازات للجنود الأمريكان العائدين من الحرب، بأن يلتحق بالجامعة في دنفر والحصول علي الدكتوراة من جامعة ميسوري حيث بدأ في كتابة روايته الثالثة ستونر. لقد كان عالماً وشاعراً بجانب كونه روائياً، وأسس برنامج الكتابة بجامعة دنفر حيث درس هناك لأكثر من ثلاثة عقود. وتقاعد عام 1985 ورحل عن الحياة 1994. وبالتمعن في روايته الأشهر، نجد أن كثيراً من الأمور الجيدة حدثت في حياة ستونر ولكنها دائما تنتهي نهاية سيئة. فهو يستمتع بتعليم الطلاب ولكن حياته المهنية في وضع حرج بسبب رئيس القسم الحاقد. كما إنه يقع في الحب ويتزوج ولكنه يعرف في غضون شهور أن تلك العلاقة فاشلة. ويحب ابنته بشدة ولكنها تتحول ضده. ثم يقع في حب جديد مفاجيء يمنحه حياة جديدة ولكن تعترضه أسباب خارجية. وعندما وصل لعمر 42، عبر قائلا: "لا أجد شيئاً أمامي تمنيت الاستمتاع به، كما أني أري خلفي القليل الذي حرصت علي أن أتذكره". في واحد من الحوارات النادرة التي قام بها في حياته، قال ويليامز: "اعتقد أنه بطل حقيقي. الكثير من الناس الذين قرأوا ستونر، اعتقدوا أنه حظي بحياة حزينة وسيئة فحسب. أنا اعتقد إنه حظي بحياة جيدة جدا. حظي بحياة أفضل مما حظي بها الكثيرون، لقد كان لديه مشاعر تجاه ما كان يفعله.. كان الجزء الأهم في الرواية بالنسبة لي هو احساس ستونر بعمله وشعوره بالمسئولية.. فعمله أعطاه شكلا خاصاً لهويته وشكل كيانه كما كان".