التعليم العالي: تكليف الدكتور أيمن فريد بتسيير أعمال قطاع الشئون الثقافية    استثمارات سعودية جديدة في مجال الفنادق بمصر    تأكيد مشاركة 45 وزيرًا و70 رئيس مدينة حتي الآن.. تفاعل دولي ومحلي واسع لاستضافة مصر المنتدى الحضري العالمي 4 فبراير المقبل لتدشين حقبة جديدة للتنمية العمرانية    البنك المركزي يربط سيولة بقيمة 848.4 مليار جنيه من 28 بنكا في السوق المحلي    بنك التنمية الصناعية يمنح شركة تساهيل قرض معبري بقيمة 900 مليون جنيه    الخطوط الجوية البريطانية تلغي رحلاتها إلى تل أبيب في أعقاب التصعيد الأخير    وزير الخارجية يبحث مع نظيرته الألمانية سبل نفاذ المساعدات الانسانية لغزة دون أي عوائق    سلوت يعلن غياب أليسون عن مباراة وست هام في كأس الرابطة الإنجليزية    سفر الزمالك ومحاضرة أهلاوية وإعلان مواعيد مباريات إفريقيا| نشرة الرياضة ½ اليوم 24-9-2024    وزارة الرياضة تنفذ سلسلة من الأنشطة المتنوعة للنشء بمراكز الشباب    إخلاء سبيل إسلام بحيري من قسم شرطة مصر القديمة    أهالي "كفر الأشقم" بالشرقية يسغيثون: بقالنا 3 سنين من غير مياه | صور    وزير الثقافة يجدد ل خالد جلال رئيسا لقطاع الإنتاج الثقافي    الطاهرى: طاقم "القاهرة الإخبارية" فى بيروت يوزع المياه لنازحى الجنوب.. فيديو    هيئة الكتاب تشارك ب500 عنوان فى معرض الكتاب بنقابة الصحفيين    مريم الجندي: الاختيار 2 أهم خطوة في مسيرتي    وزير الثقافة يُكرّم السوبرانو المصرية العالمية «فاطمة سعيد»    منظمة الصحة العالمية | 30 ألف حالة اشتباه ب«جدري القردة» في إفريقيا    «100 يوم صحة» قدمت 85 مليون و960 ألف خدمة مجانية خلال 54 يوما    مجلس الوزراء: الموافقة على إنشاء 10 كليات أهلية    «المؤتمر»: مصر أول دولة إفريقية تستضيف المنتدى الحضري العالمي منذ 20 عاما    أحمد عيد عبدالملك يحذر لاعبي الزمالك من «خدعة كولر»    بكتيريا «الإيكولاي».. انتبه لأطفالك في المدرسة    رئيس جامعة القاهرة: لدينا علاقات قوية مع الجامعات الصينية ونبحث تبادل الزيارات والبرامج المزدوجة    وزير العمل: مصر تدعم كل عمل عربي مشترك يؤدي إلى التنمية وتوفير فرص العمل للشباب    اتحاد الكرة يعلن عن تشكيل الجهاز الفني لمنتخب الشباب بقيادة روجيرو ميكالي    تين هاج: أنا مشجع لفريق تفينتى ولم أرغب فى مواجهته    لصحة أطفالك.. فوائد ممارسة الرياضة أثناء الدراسة    المشاط تلتقي ممثلي «منتدى الشباب» ضمن قمة المستقبل 2024 بنيويورك    رابط إعلان نتيحة تقليل الاغتراب والتحويلات لطلاب الشهادات الفنية 3 و5 سنوات    وزيرة التضامن تتوجه إلى جنيف للمشاركة في فعاليات الدورة ال 57 لمجلس حقوق الإنسان    وزير الخارجية: قضية المياه وجودية لمصر ولن نسمح لأي دولة بالتصرف وفق أهوائها    بالأسماء.. 11 مصابًا في تصادم ميكروباصين ونصف نقل على زراعي البحيرة    المواطنة والهوية الوطنية.. كيف تؤثر القيم الإنسانية في مواجهة الفكر المتطرف؟    «إلغاء الوجبات المجانية على الطائرات».. توجه عالمي لشراء المأكولات قبل السفر (تفاصيل)    الجيزة تزيل 13 كشك و"فاترينة" مقامة بالمخالفة بالطريق العام في المنيب    الشلماني يثير حفيظة القطبين قبل موقعة السوبر    CNN: استراتيجية ترامب فى إثارة مخاوف الناخبين بشأن الاقتصاد تحقق نجاحا    طقس الفيوم.. انخفاض درجة الحرارة والعظمى تسجل 33°    عاجل| السيسي يصدر توجيها جديدا بشأن تنمية جنوب سيناء    حبس عاطل ضبط وبحوزتi مواد مخدرة قبل ترويجهم على المتعاطين بالمنوفية    ميرنا وليد وبناتها يخطفن الأنظار في حفل ختام مهرجان الغردقة (صور)    صوت الإشارة.. قصة ملهمة وبطل حقيقي |فيديو    وزير الدفاع يشهد تنفيذ المرحلة الرئيسية لمشروع مراكز القيادة الاستراتيجي التعبوي التخصصي    ضبط مخزن في طنطا لإعادة تعبئة المبيدات الزراعية منتهية الصلاحية باستخدام علامات تجارية كبرى    النزلات المعوية.. مستشار الرئيس: نستنفر لخدمة المرضى دون تأخير.. ده واجب قومي علينا    ضغوطات وتحديات في العمل.. توقعات برج الحمل في الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر 2024    وزير الخارجية: لا يمكن الحديث عن تنمية اقتصادية واجتماعية دون أمن واستقرار    العراق يمنح سمات الدخول إلى اللبنانيين الواصلين إلى المنافذ الحدودية    شوبير يعلق على قائمة الأهلي للسوبر الأفريقي: لا صحة لوجود حارسين فقط    الإسماعيلي ينتظر رد «فيفا» اليوم لحسم ملف خليفة إيهاب جلال (خاص)    الصحة تعلن حصول 3 مستشفيات على شهادة اعتماد الجودة من GAHAR    ما حكم الخطأ في قراءة القرآن أثناء الصلاة؟.. «اعرف الرأي الشرعي»    بالفيديو.. أسامة قابيل للطلاب: العلم عبادة فاخلصوا النية فيه    الإفتاء: الإسلام حرم نشر الشائعات وترويجها وتوعد فاعل ذلك بالعقاب الأليم    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 24-9-2024 في محافظة قنا    أضف إلى معلوماتك الدينية| دار الإفتاء توضح كيفية إحسان الصلاة على النبي    جيش الاحتلال الإسرائيلي: صفارات الإنذار تدوى جنوب وشرق حيفا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد الزناتى يكتب تأملات فى أحوال السيد كا
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 01 - 01 - 2022

تأمّلْ ‬الفقرة ‬التالية ‬من ‬كلام ‬روبرتو ‬كالاسو ‬عن ‬الكتابة:‬‮»‬تًكتب ‬الرواية ‬عندما ‬يكون ‬هناك ‬شيء ‬يتحتّم ‬على ‬الكاتب ‬اكتشافه، ‬وهو ‬شيء ‬غامض ‬لا ‬يعرف ‬الكاتب ‬طبيعته ‬ولا ‬أين ‬يجده، ‬كل ‬ما ‬يعرفه ‬أنه ‬شيء ‬ينبغى ‬العثور ‬عليه. ‬عند ‬هذه ‬اللحظة ‬تبدأ ‬المطاردة ‬و ‬تبدأ ‬الكتابة‮»‬. ‬
فى ‬أواخر ‬يوليو ‬الماضى ‬توفى ‬الكاتب ‬والناقد ‬والناشر ‬الإيطالى ‬روبرتو ‬كالاسو ‬عن ‬عمرٍ ‬ناهز ‬الثمانين ‬سنة ‬بعد ‬عمرٍ ‬طويل ‬أمضاه ‬فى ‬أروقة ‬عالم ‬النشر ‬والكتابة ‬والنقد ‬والتحليل ‬الأدبى. ‬كالاسو ‬من ‬مواليد ‬30 ‬مايو ‬1941 ‬فى ‬مدينة ‬فلورنسا ‬الإيطالية. ‬عمل ‬فى ‬شركة ‬النشر ‬أديلفى ‬إديزيونى (‬Adelphi Edizioni‮ ‬) ‬منذ ‬تأسيسها ‬على ‬يد ‬المحرر ‬والكاتب ‬الإيطالى ‬روبرتو ‬بازلين ‬فى ‬عام ‬1962، ‬وقد ‬حرّر ‬كالاسو ‬كتاباً ‬ضخماً ‬يضم ‬نصوص ‬بازلين، ‬سبق ‬وأن ‬ناقشتُه ‬فى ‬مادة ‬سابقة ‬قبل ‬وفاته ‬بشهرين.‬
ترأس ‬كالاسو ‬الدار ‬فى ‬سنة ‬1999، ‬وفى ‬سنة ‬2015 ‬اشترى ‬الشركة ‬لمنع ‬الاستحواذ ‬عليها ‬بمعرفة ‬دار ‬نشر ‬أكبر. ‬كالاسو ‬موسوعة ‬واقفة ‬على ‬قدميْن ‬ومؤسسة ‬أدبية ‬قائمة ‬برأسها، ‬شخصية ‬صموتة ‬منصرفة ‬إلى ‬عملها ‬بالمعنى ‬الغربى ‬للكلمة؛ ‬سِكة ‬هارولد ‬بلوم ‬وجورج ‬شتاينر ‬وعبد ‬الرحمن ‬بدوى ‬ومحمد ‬عنانى. ‬كان ‬كالاسو ‬يجيد ‬الفرنسية ‬والإنجليزية ‬والإسبانية ‬والألمانية ‬واللاتينية ‬واليونانية ‬القديمة. ‬كما ‬درس ‬السنسكريتية ‬وتركزت ‬أعماله ‬حول ‬تحليل ‬العلاقة ‬بين ‬الأسطورة ‬وظهور ‬الوعى ‬الحديث، ‬ونشرَ ‬عن ‬هذه ‬الأطروحة ‬عدداً ‬من ‬الأعمال ‬الفكرية ‬ثرية ‬المادة ‬من ‬بينها ‬زواج ‬كادموس ‬وهارمونى، ‬الأدب ‬والآلهة، ‬وكتاب ‬الكُتب، ‬وغيرها. ‬كما ‬كتبَ ‬عدداً ‬ضخماً ‬من ‬المقالات ‬التى ‬ركزّت ‬على ‬إعادة ‬تناول ‬الأساطير ‬الهندية ‬والإغريقية ‬وربطها ‬بمسار ‬الحداثة ‬الأوروبية. ‬أولى ‬كالاسو ‬جانباً ‬من ‬اهتمامه ‬بأعمال ‬فرانتس ‬كافكا، ‬خرجتْ ‬فى ‬صورة ‬كتاب (‬Ka) ‬وتُنطق ‬كما ‬نَنطِقُ ‬أول ‬حرفين ‬من ‬اسم ‬‮«‬كارل‮»‬، ‬وهو ‬الكتاب ‬الذى ‬سأناقشه ‬فى ‬السطور ‬التالية (‬اعتمدتُ ‬هنا ‬على ‬الطبعة ‬الإلكترونية ‬الصادرة ‬عن ‬دار ‬Penguin Modern Classics ‬السنة ‬الماضية). ‬
للمؤلف ‬كذلك ‬عمل ‬آخر ‬يحمل ‬عنوان (‬Ka) ‬وهو ‬دراسة ‬فى ‬تمثيلات ‬الميثولوجيا ‬الهندية. ‬عرف ‬قدماء ‬المصريون ‬‮«‬الكا‮»‬: ‬الطاقة ‬النفسية ‬والحيوية ‬لدى ‬الإله ‬أو ‬شرارة ‬الحياة ‬بحسب ‬تعريف ‬موسوعة ‬الأساطير ‬والرموز ‬الفرعونية (‬المركز ‬القومى ‬للترجمة ‬– ‬2004، ‬ص: ‬265)‬، ‬وكان ‬ليونج ‬ولع ‬خاص ‬بِ(‬كا) ‬وحاورَها ‬كثيراً ‬فى ‬دفاتره ‬السوداء ‬باعتبارها ‬القرين ‬الروحى ‬المرافق ‬للإنسان ‬طَوال ‬حياته. ‬يبدو ‬أن ‬مفردة ‬‮«‬كا‮»‬ ‬مفردة ‬سحرية، ‬تضرب ‬بجذورها ‬إلى ‬أعماق ‬أبعد ‬مما ‬نظن. ‬

قلْبُ ‬هذا ‬العمل ‬مناقشة ‬مُطوّلة ‬لروايتى ‬كافكا ‬‮«‬Der Prozeß‮»‬، ‬القضية ‬فى ‬ترجمة ‬د. ‬مصطفى ‬ماهر، ‬والمحاكمة ‬فى ‬ترجمة ‬وطفى، ‬وإن ‬كنتُ ‬أميل ‬إلى ‬عنوان ‬ماهر، ‬ورواية ‬Das Schloss ‬القصر ‬أو ‬القلعة ‬فى ‬ترجمات ‬أخرى. ‬فى ‬تحليل ‬كالاسو ‬تقارب ‬الروايتان ‬فكرة ‬التعامل ‬مع ‬حالة ‬ما. ‬محور ‬الروايتين ‬فكرة ‬‮«‬وقوع ‬الاختيار ‬على ‬شخصٍ ‬بعينه‮»‬، ‬يصفها ‬كالاسو ‬ب‮«‬Election‮»‬، ‬أو ‬القُرعة ‬السماوية ‬بالمعنى ‬الميثولوجى ‬الذى ‬يطرحه ‬جوزيف ‬كامبل. ‬
بحسب ‬كالاسو ‬فنقطة ‬الانطلاق ‬دائماً ‬وقوع ‬الاختيار ‬على ‬كا ‬وغموض ‬اختياره ‬هو ‬تحديداً، ‬وهو ‬غموض ‬لا ‬سبيل ‬إلى ‬تفسيره، ‬حتى ‬أن ‬البطل ‬نفسه ‬لا ‬يحاول ‬البحث ‬عن ‬مسوّغات ‬لوقوع ‬الاختيار ‬عليه ‬ويسير ‬مع ‬الحكاية ‬حتى ‬آخرها. ‬يأخذنا ‬كالاسو ‬فى ‬تحليل ‬مقارن ‬لفصول ‬الروايتيْن، ‬ثم ‬يمضى ‬فى ‬فصول ‬لاحقة ‬فى ‬مقاربة ‬نصوص ‬كافكا ‬الأخرى ‬ويعرّج ‬فى ‬أحيان ‬كثيرة ‬على ‬اليوميات ‬والرسائل. ‬يقرأ ‬كالاسو ‬نصوص ‬كافكا ‬بما ‬فى ‬ذلك ‬اليوميات ‬والشذرات ‬قراءة ‬حميمية ‬لدرجة ‬أن ‬صوته ‬كمؤلف ‬يتبادل ‬الدور ‬مع ‬صوت ‬المؤلف، ‬فلا ‬تدرى ‬كقاريء ‬من ‬الذى ‬يتكلم ‬كافكا ‬أم ‬كالاسو. ‬حُلم ‬جوانج ‬زي: ‬الرجل ‬الذى ‬يحلُم ‬بأنه ‬فراشة ‬أم ‬الفراشة ‬التى ‬تحُلم ‬بأنها ‬رجل.‬
من ‬بين ‬وصايا ‬هسّه ‬الخالدة ‬أنه ‬ينبغى ‬على ‬القارئ ‬أن ‬يختار ‬مما ‬يقرأ ‬مختارات ‬تخصّه، ‬فقرات ‬بعينها ‬رسختْ ‬بذهنه ‬وأثّرت ‬فيه، ‬وإلا ‬تحوّل ‬إلى ‬آلة ‬كاتبة ‬أو ‬ببغاء. ‬ولكل ‬قارئ ‬‮«‬كافكاه‮»‬ ‬وتأويله ‬لما ‬قرأ. ‬عثرت ‬عند ‬كالاسو ‬على ‬بعض ‬النقاط ‬الجديرة ‬بالإشارة، ‬لذلك ‬سأتوقّف ‬هنا ‬عند ‬رؤية ‬المؤلف ‬للروايتين ‬المذكورتين ‬سلفاً ‬لظهور ‬البطل ‬فيهما ‬باسم ‬كا، ‬وهو ‬عنوان ‬الكتاب. ‬
فى ‬تحليل ‬كالاسو ‬لأحوال ‬البطل ‬الروائى ‬كا ‬يلاحظُ ‬كالاسو ‬أن ‬إدانته/‬ملاحقته ‬دائماً ‬أمر ‬مؤكد، ‬بينما ‬اختياره ‬لأداء ‬المهمة ‬أمر ‬غير ‬مؤكد. ‬يظهر ‬مجهولان ‬فى ‬غرفة ‬يوزيف ‬كا، ‬يلتهمان ‬فطوره، ‬ثم ‬يُبلغ ‬فى ‬عيد ‬ميلاده ‬الثلاثين ‬بأنه ‬معتقل. ‬الادعاء ‬هو ‬نفسه ‬هو ‬الحُكم. ‬الموضوع ‬محسوم ‬ولا ‬حلّ ‬لذلك. ‬أما ‬فى ‬رواية ‬القصر ‬ثمة ‬شكوك ‬تحوم ‬حول ‬حقيقة ‬استدعاء ‬موظف ‬المساحة ‬كا. ‬
فاكرين ‬مثلاً ‬غضب ‬شفارتسِر ‬فى ‬أول ‬الرواية ‬لما ‬تلقّى ‬اتصالاً ‬من ‬فريتس ‬وقال ‬إن ‬الوافد ‬الغريب ‬مجرد ‬صعلوك ‬دنيء ‬كذاب، ‬ثم ‬رجع ‬وعَدل ‬عن ‬كلامه ‬بعد ‬مكالمة ‬هاتفية ‬مُطولة ‬من ‬مدير ‬المكتب. ‬ثمة ‬شيء ‬خفى ‬يجرى ‬من ‬وراء ‬الستار ‬حول ‬مسألة ‬تعيين ‬كا. ‬هل ‬نعرف ‬شيئاً ‬عن ‬تاريخ ‬كا ‬وأصله ‬وفصله ‬قبل ‬الوصول ‬إلى ‬القصر؟ ‬لا ‬سبيل ‬إلى ‬معرفة ‬ذلك ‬على ‬وجه ‬اليقين. ‬
يخبر ‬مديرُ ‬القرية ‬المسّاح ‬كا: ‬‮«‬لقد ‬قلت ‬إنهم ‬قبلوك ‬موظفاً ‬للمساحة، ‬ولكننا ‬للأسف ‬لا ‬نحتاج ‬إلى ‬موظف ‬مساحة، ‬فليس ‬له ‬أدنى ‬عمل ‬هنا‮»‬. ‬يقول ‬كالاسو: ‬‮«‬إن ‬القسوة ‬ليست ‬فى ‬الجملة ‬الأخيرة ‬بل ‬فى ‬كلمة ‬‮«‬لقد ‬قلت‮»‬، ‬تأويلى ‬لاقتباس ‬كالاسو: ‬لم ‬يستعدك ‬أحد ‬يا ‬سيد ‬كا، ‬وإثبات ‬مبرر ‬وجودك ‬فى ‬القصر ‬مسئوليتك ‬وحدك.‬

يرى ‬كالاسو ‬أن ‬روايتى ‬المحاكمة ‬والقصر ‬تدوران ‬فى ‬جو ‬نفسى ‬واحد، ‬فى ‬عالم ‬يُطلِق ‬عليه ‬mundus imaginalis، ‬بقليل ‬من ‬البحث ‬وجدت ‬أنه ‬مصطلح ‬نحته ‬الفيلسوف ‬الفرنسى ‬والصوفى ‬الكبير ‬د. ‬هنرى ‬كوربان ‬لوصف ‬مملكة ‬الخيال ‬التى ‬يسبح ‬فيها ‬العارفون، ‬وترجمته (‬عالم ‬المثال) ‬لو ‬استعرنا ‬تعبير ‬الشيخ ‬الأكبر، ‬أو ‬قالب ‬من ‬اللا ‬واقع ‬مضمونه ‬الواقع ‬بتعبير ‬د. ‬مصطفى ‬ماهر ‬فى ‬مقدمة ‬ترجمة ‬القضية. ‬
تحليل ‬كالاسو ‬للعمليْن ‬مثير ‬للانتباه. ‬يقول ‬إنه ‬بعد ‬تنفيذ ‬حكم ‬الإعدام ‬فى ‬يوزيف ‬كا، ‬يُستدعى ‬المسّاح ‬كا ‬فى ‬مهمة ‬غامضة ‬إلى ‬القصر. ‬يطلق ‬كالاسو ‬على ‬هذه ‬الحالة ‬الbardo، ‬ومعناها ‬فى ‬كتاب ‬الموتى ‬البوذى ‬– ‬بحسب ‬شرح ‬كالاسو- ‬حالة ‬متداخلة ‬بين ‬الموت ‬والبعث، ‬والعبد ‬لله ‬يُفتى ‬ويزعم ‬أن ‬مفردة (‬الباردو) ‬غير ‬بعيدة ‬اشتقاقياً ‬عن ‬مفردة (‬البرزخ). ‬هنا ‬ألمس ‬مدى ‬ولع ‬كالاسو ‬بردّ ‬أصل ‬الأشياء ‬إلى ‬منبعها، ‬كما ‬أرى ‬ذهنه ‬المشغول ‬دوماً ‬بمحاولة ‬ربط ‬الواقعى ‬بجذوره ‬الميثولوجية، ‬وهو ‬ما ‬برع ‬فيه ‬طَوال ‬حياته. ‬استشعرتُ ‬ذلك ‬فى ‬استلهام ‬فكرته ‬السابقة ‬من ‬فكرة ‬التناسخ. ‬تُبعث ‬روح ‬كا ‬إلى ‬الحياة ‬فى ‬جسد ‬موظف ‬مثله ‬مثل ‬سلفِه ‬موظف ‬البنك ‬يوزيف ‬كا، ‬لهذا ‬لا ‬نعلم ‬شيئاً ‬عن ‬أصل ‬المسّاح ‬وفصله، ‬وكأنها ‬إحدى ‬دورات ‬العود ‬الأبدى ‬فى ‬شكلها ‬الكافكاوى. ‬
فى ‬البداية ‬لنتذكر ‬ما ‬قاله ‬كا ‬إلى ‬الرئيس ‬بخصوص ‬خطاب ‬التعيين (‬ترجمة ‬د. ‬ماهر): ‬‮«‬إذا ‬قبلنا ‬جدلاً ‬بأن ‬الأحوال ‬على ‬هذا ‬النحو ‬فمعنى ‬هذا ‬أن ‬الخاطر ‬الذى ‬طرأ ‬باستدعاء ‬شخص ‬للعمل ‬كموظف ‬مساحة ‬فى ‬القصر ‬مجرد ‬عمل (‬خيالى ‬ودي)..‬ثم ‬تتابعت ‬الأعمال ‬فى ‬الفترة ‬التالية ‬الواحدة ‬تلو ‬الأخرى؟‮»‬ ‬عمل ‬خيالى ‬ودّى، ‬كلمة ‬لا ‬تُنسى ‬أبداً. ‬
يذهب ‬كالاسو ‬إلى ‬أن ‬الدخول ‬إلى ‬القصر ‬مثل ‬الدخول ‬إلى ‬حُلم، ‬لكنها ‬تذكرة ‬ذهاب ‬فقط ‬بدون ‬عودة، ‬والإجراءات ‬الإدارية ‬فى ‬القضية ‬والقصر ‬متشابهة ‬إلى ‬حد ‬ما، ‬لكن ‬لا ‬شيء ‬يؤكد ‬أن ‬الاستراتيجة ‬العامة ‬فى ‬الحالتين ‬متوافقة. ‬لا ‬توجد ‬فى ‬القصر ‬ملاحقة ‬قانونية ‬ولا ‬حاجة ‬إلى ‬كتابة ‬مذكرة ‬دفاع (‬كما ‬حاول ‬يوزيف ‬فى ‬أثناء ‬ساعات ‬العمل ‬الرسمية ‬فى ‬البنك)‬، ‬بل ‬يكفى ‬أن ‬تستمر ‬الحياة. ‬مجرد ‬مرور ‬الوقت ‬هو ‬الحُكم. ‬الدخول ‬إلى ‬القصر ‬معناه ‬غياب ‬الزمن. ‬ألا ‬تذكرنا ‬أيضاً ‬بكيفية ‬انقضاء ‬الزمن ‬ومرور ‬الأيام ‬على ‬دروجو ‬فى ‬صحراء ‬التتار؟ ‬يحتدّ ‬كا ‬ويبرز ‬خطاب ‬التعيين ‬الموقّع ‬من ‬‮«‬كْلَمْ‮»‬، ‬فيخبره ‬الرئيس ‬أنه ‬ليس ‬مخاطبة ‬رسمية، ‬بل ‬مجرد ‬خطاب ‬خاص ‬لم ‬ترد ‬به ‬كلمة ‬واحدة ‬تؤكد ‬أنه ‬مقبول، ‬وأن ‬تفسير ‬مغزى ‬وجوده ‬فى ‬القصر ‬ملقى ‬على ‬عاتقه ‬وحده. ‬

أما ‬عن ‬الأصالة ‬الفنية ‬فى ‬الروايتيْن ‬فيقول: ‬‮«‬ما ‬يميز ‬القضية ‬والقصر ‬هو ‬أن ‬الروايتيْن ‬من ‬السطر ‬الأول ‬حتى ‬السطر ‬الأخير ‬تظهران ‬أمام ‬أعيننا ‬على ‬أعتاب ‬عالم ‬خفى ‬يشكّك ‬المرء ‬فى ‬وجوده. ‬لم ‬يسبق ‬لرواية ‬قط ‬أن ‬رسمت ‬مثل ‬هذا ‬الخط ‬الرفيع ‬بين ‬الحلم ‬والواقع ‬أو ‬رسمت ‬لنا ‬مثل ‬هذا ‬المكان. ‬لم ‬يسبق ‬لأحد ‬قط ‬أن ‬قرّب ‬إلينا ‬هذين ‬العالمين ‬بشكل ‬مرعب ‬بحيث ‬يبدو ‬أنهما ‬يلمسان ‬كل ‬واحد ‬منا ‬ملامسة ‬خفية. ‬لا ‬يمكننا ‬أن ‬نجزم ‬على ‬وجه ‬اليقين ‬ما ‬إذا ‬كان ‬هذا ‬العالم ‬الخفى ‬خيرًا ‬أم ‬شراً ‬، ‬فردوسياً ‬أم ‬جهنمياً. ‬القرينة ‬المادية ‬الوحيدة ‬هى ‬ذلك ‬الشعور ‬الغامض ‬الذى ‬يغمرنا ‬ويغلفّ ‬قلوبنا، ‬وحالنا ‬كحال ‬‮«‬كا‮»‬ ‬تتناوب ‬علينا ‬ومضات ‬من ‬النوم ‬واليقظة، ‬فنخلط ‬بينهما ‬أحياناً، ‬لكن ‬أحداً ‬لا ‬يملك ‬سلطة ‬تصحيح ‬رؤيتنا‮»‬. ‬
فى ‬فصل ‬لاحق ‬يقدم ‬المؤلف ‬تأويله ‬حول ‬سبب ‬عدم ‬مغادرة ‬كا ‬القصر، ‬فيقول ‬عن ‬القصر ‬إنه ‬مكان ‬مؤلم، ‬لكنه ‬المكان ‬الوحيد ‬الذى ‬يعرف ‬كافكا ‬أنه ‬ينتمى ‬إليه. ‬وصل ‬كا ‬إلى ‬القرية ‬الواقعة ‬أسفل ‬القصر، ‬وبعد ‬أن ‬لاقى ‬الرفض ‬فى ‬البداية ‬وتعرّض ‬للمضايقة، ‬يدرك ‬أنه ‬جاء ‬إلى ‬هنا ‬ليبقى ‬كما ‬لو ‬أن ‬أى ‬نوع ‬آخر ‬من ‬الحياة ‬كان ‬مغلقاً ‬أمام ‬وجهه، ‬فيكرر: ‬‮«‬سأبقى ‬هنا‮»‬، ‬ويواصل ‬كما ‬لو ‬كان ‬يتحدث ‬إلى ‬نفسه: ‬‮«‬ما ‬كان ‬لشيء ‬آخر ‬أن ‬يأتى ‬بى ‬إلى ‬هذه ‬الأرض ‬اليباب [‬يستخدم ‬كالاسو ‬كلمة ‬The Wasteland] ‬إن ‬لم ‬تكن ‬الرغبة ‬فى ‬البقاء ‬هنا‮»‬. ‬كا ‬قدّم ‬المبررات ‬وقال ‬إنه ‬قطع ‬رحلة ‬شاقة ‬طويلة ‬وعثر ‬على ‬عروسه ‬فى ‬هذا ‬المكان، ‬وأنه ‬لن ‬يجد ‬عملاً ‬فى ‬مكان ‬آخر. ‬القصر ‬– ‬وفق ‬كلام ‬كالاسو- ‬هى ‬الأرض ‬اليباب، ‬وهو ‬أيضاً ‬أرض ‬الميعاد. ‬وأرض ‬الميعاد ‬هو ‬الأرض ‬الوحيدة ‬التى ‬يمكن ‬للمرء ‬أن ‬يقول ‬عنها ‬كما ‬قال ‬كا: ‬‮«‬لا ‬أستطيع ‬الهجرة ‬منها‮»‬. ‬
أنفر ‬شخصياً ‬من ‬كل ‬تأويل ‬لاهوتى. ‬التأويلات ‬اللاهوتية ‬حدّية، ‬شارع ‬ذو ‬اتجاه ‬واحد، ‬أميل ‬إلى ‬وجهة ‬نظر ‬هسّه ‬فى ‬إحدى ‬رسائله (‬رسالة ‬مؤرخة ‬فى ‬9 ‬يناير ‬1956 ‬بترجمتي) ‬لما ‬قال: ‬‮«‬بالنسبة ‬إليَّ ‬كقارئ ‬متابع ‬لأعمال ‬كافكا ‬منذ ‬بواكيره ‬الأولى ‬فالأسئلة ‬التى ‬طرحها ‬لم ‬يعطِ ‬عنها ‬إجابة. ‬كان ‬كافكا ‬ينقل ‬إلينا ‬أحلامه ‬ورؤاه ‬حول ‬حياته ‬الموحشة ‬القاسية، ‬وكان ‬يقدّم ‬إلينا ‬قصصاً ‬شبيهة ‬بمعايشاته، ‬وبمنغصّات ‬حياته ‬ومسرّاتها. ‬كانت ‬هذه ‬الأحلام ‬والرؤى ‬فريدة ‬من ‬نوعها، ‬ومطلوب ‬منا [‬كقرّاء] ‬قراءتها ‬وقبولها‮»‬.‬
لا ‬أظن ‬أن ‬القصر ‬مجاز ‬إلى ‬أرض ‬ميعاد ‬ولا ‬غيره. ‬غموض ‬معنى ‬القصر ‬جزء ‬من ‬معنى ‬القصر. ‬طريق ‬قطعه ‬الكاتب ‬وأراد ‬أن ‬يعرف ‬آخره. ‬تقول ‬آخر ‬جُملة ‬فى ‬مولوى ‬بيكيت: (‬لقد ‬طلب ‬منى ‬الصوت ‬كتابة ‬التقرير. ‬ذهبت ‬إلى ‬البيت ‬وكتبت. ‬كان ‬الوقت ‬منتصف ‬الليل ‬وكان ‬المطر ‬يدقّ ‬النوافذ. ‬لم ‬يكن ‬الوقت ‬منتصف ‬الليل، ‬لم ‬تكن ‬تمطر). ‬ربما ‬يكون ‬هذا ‬تفسير ‬تلبية ‬كا ‬لخطاب ‬الاستدعاء ‬والذهاب ‬إلى ‬القصر. ‬وما ‬علاقة ‬هذا ‬بذاك؟ ‬هذه ‬أسرار ‬مدفونة ‬فى ‬أعماق ‬كل ‬كاتب. ‬
ينوّه ‬كالاسو ‬أيضاً ‬بقوة ‬وأصالة ‬ثيمات ‬الزمن ‬المُعلّق ‬والمكان ‬الذى ‬لا ‬يُمكن ‬بلوغه ‬أو ‬المكان ‬الذى ‬لا ‬يمكن ‬الخروج ‬منه. ‬ذكّرنى ‬كلامه ‬بفقرة ‬فى ‬كتاب ‬يوميات ‬القراءة ‬لمانجويل ‬سردَ ‬فيها ‬أسماء ‬الأعمال ‬التى ‬تتناول ‬ثيمة ‬الزمن ‬المُعلّق ‬مثل ‬رواية ‬امرأة ‬فى ‬الرمال ‬لكوبو ‬آبى، ‬ونوفيلا ‬ساحرة ‬لأدولفو ‬بيوى ‬كاساريس ‬دوَّختنى ‬وراءها ‬سنوات ‬اسمها ‬‮«‬اليمين ‬الكاذبة ‬للثلج‮»‬ ‬عثرتُ ‬على ‬ترجمتها ‬الإنجليزية ‬مؤخراً، ‬وثيمة ‬الأماكن ‬التى ‬لا ‬يمكن ‬بلوغها/‬مغادرتها ‬مثل ‬قلعة ‬كافكا ‬وصحراء ‬التتار ‬لبوتزاتى ‬ومسرحية ‬الأبواب ‬المغلقة ‬لسارتر، ‬إلخ. ‬
نقطة ‬مهمة ‬جديرة ‬بالإشارة ‬اقتنصها ‬كالاسو ‬بمهارة ‬وساعدتنى ‬على ‬الاقتراب ‬من ‬فهم ‬كافكا ‬فهماً ‬أفضل، ‬حيث ‬يقول: ‬‮«‬تبدأ ‬عملية ‬الكتابة ‬عند ‬كافكا ‬حينما ‬يدخل ‬فى ‬علاقة ‬مع ‬اجراءات ‬المحاكمة ‬أو ‬بعد ‬دخول ‬القصر، ‬وهى ‬علاقة ‬ستكون ‬دائماً ‬وحرفياً، ‬مثل ‬قضية ‬خاسرة‮»‬، ‬فيقتبسُ ‬جُملة ‬عابرة ‬لقطَها ‬كالاسو ‬من ‬حوار ‬يوزيف ‬كا ‬فى ‬رواية ‬القضية ‬مع ‬عمّه ‬كارل: ‬‮«‬إن ‬قضية ‬كهذه ‬هى ‬قضية ‬خاسرة ‬منذ ‬البداية‮»‬. ‬
أقول ‬فى ‬نفسى ‬هل ‬هذا ‬هو ‬السبب ‬الذى ‬لم ‬يدفع ‬كافكا ‬لأن ‬يتعامل ‬مع ‬موهبته ‬الأدبية ‬تعاملاً ‬أكثر ‬جدية؟ ‬يسأل ‬راينر ‬شتاخ ‬فى ‬كتابه ‬كافكا ‬السنوات ‬الأولى (‬ت: ‬هبة ‬الله ‬فتحي) ‬هل ‬جاء ‬كاتب ‬من ‬قبل ‬يحترم ‬عملية ‬الكتابة ‬ويحتقر ‬المُنتج ‬الملموس ‬بهذا ‬الشكل؟ ‬ظلَّ ‬ماكس ‬برود ‬حائراً ‬فى ‬تفسير ‬هذا ‬الموقف ‬الغامض ‬من ‬صديقه ‬إزاء ‬نشر ‬أعماله ‬وتردّده ‬بوصف ‬موقفه ‬دليلًا ‬على ‬العبقرية، ‬أم ‬ربما ‬هو ‬حالة ‬بعيدة ‬عن ‬الفن، ‬حالة ‬مدمرة (‬أو ‬قضية ‬خاسرة ‬بتعبير ‬كالاسو). ‬ما ‬الذى ‬كان ‬يقصده ‬كافكا؟ ‬ما ‬الذى ‬كان ‬يريده ‬من ‬وراء ‬الكتابة ‬إن ‬كان ‬يستهين ‬بمسألة ‬المُنتج ‬المطبوع؟ ‬التأويلات ‬مختلفة، ‬لكن ‬السرّ ‬وحده ‬عند ‬البطل ‬المتكتّم. ‬بورخيس ‬قال ‬مرة ‬فى ‬حوار ‬مترجَم ‬إن ‬كافكا ‬كان ‬يفتش ‬عن ‬شيء ‬ما، ‬لكن ‬لم ‬يوضّح ‬المزيد. ‬
الحقيقة ‬أن ‬ملاحظة ‬شتاخ ‬السابقة ‬سبق ‬وأن ‬أثارها ‬رونالد ‬جراى ‬فى ‬كتاب ‬فرانز ‬كافكا (‬المشروع ‬القومى ‬للترجمة ‬ت: ‬نسيم ‬مجلى، ‬2000)‬؛ ‬أقصد ‬ملاحظة ‬أن ‬شك ‬أهل ‬القصر ‬فى ‬تعيين ‬المسّاح ‬كا ‬عند ‬وصوله ‬يعكس ‬شكّ ‬كافكا ‬نفسه ‬فى ‬موهبته ‬وقيمته ‬ككاتب. ‬فكلمة ‬Surveyor = ‬مسّاح ‬استعارة ‬ليست ‬سيئة ‬الدلالة ‬على ‬روائي= ‬Novelist، ‬وكما ‬أن ‬المسّاح ‬لم ‬يقدم ‬دليلاً ‬واحداً ‬على ‬كفاءته ‬الوظيفية ‬لم ‬يقدم ‬كافكا ‬أمارة ‬على ‬جدارته ‬ككاتب ‬فأحرق ‬أعماله ‬تشكيكاً ‬فى ‬جدواها ‬وإنكاراً ‬لقيمتها (‬ص ‬181). ‬

قرأتُ ‬منذ ‬زمن ‬بعيد ‬قصة ‬لكاتب ‬لم ‬أعد ‬أذكر ‬اسمه ‬عن ‬محامٍ ‬يعمل ‬فى ‬مؤسسة ‬كبرى ‬كُلّفَ ‬بمتابعة ‬ملف ‬قضية ‬والعثور ‬على ‬ثغرة ‬لإبراء ‬موكّله ‬وكتابة ‬مذكرة ‬الدفاع ‬عنه. ‬كانت ‬مستندات ‬القضية ‬مكتوبة ‬بلغات ‬غريبة، ‬ولأن ‬بطل ‬القصة ‬عاطفى ‬متحمّس، ‬اشترى ‬قواميس ‬كثيرة ‬وانشغل ‬سنوات ‬طويلة ‬بترجمة ‬ملف ‬القضية، ‬ثم ‬انغمس ‬سنوات ‬أخرى ‬فى ‬الاطلاع ‬على ‬ملف ‬القضية ‬ولم ‬يفهم ‬كلمة ‬واحدة. ‬كانت ‬القرائن ‬والأدلة ‬ضد ‬المدعى ‬عليه ‬غير ‬كافية، ‬لكنها ‬أيضاً ‬لم ‬تكن ‬تبرئ ‬ساحته ‬تماماً. ‬فى ‬القصة ‬ما ‬تزال ‬القضية ‬منظورة ‬أمام ‬محكمة ‬ابتدائية، ‬وما ‬يزال ‬أمامها ‬الاستئناف ‬ثم ‬النقض ‬ثم ‬إدارة ‬تنفيذ ‬الأحكام، ‬أو ‬ربما ‬يردّ ‬مجهول ‬هيئة ‬المحكمة ‬لاستشعار ‬الحرج. ‬من ‬واقع ‬خبرته ‬يستمر ‬هذا ‬النوع ‬من ‬القضايا ‬سنوات ‬طويلة، ‬طويلة ‬جداً. ‬لكن ‬عليه ‬مواصلة ‬كتابة ‬التقرير ‬والاستمرار ‬فى ‬فحص ‬أوراق ‬القضية، ‬فإن ‬لم ‬يكن ‬فى ‬المكتب، ‬ففى ‬المنزل ‬ليلاً، ‬وإن ‬لم ‬يكن ‬فى ‬المنزل ‬فعليه ‬القيام ‬بإجازة، ‬المهمّ ‬ألا ‬يتوقّف، ‬فما ‬ينبغى ‬للمرء ‬الوقوف ‬فى ‬منتصف ‬الطريق. ‬يعى ‬بطل ‬القصة ‬أنّ ‬كتابة ‬التقرير ‬عمل ‬شاق، ‬لأنها ‬تستلزم ‬التفتيش ‬فى ‬تفاصيل ‬معينة ‬فى ‬حياة ‬موكّله، ‬لكن ‬أحدًا ‬غيره ‬لن ‬يمكنه ‬كتابة ‬التقرير.‬
فى ‬الأرجح ‬كان ‬الاستدعاء ‬إلى ‬القصر ‬حيلة ‬روائية ‬مُدبّرة. ‬ربما ‬كان ‬حتماً ‬على ‬رواية ‬القصر ‬وغيرها ‬من ‬روايات ‬كافكا ‬أن ‬تظل ‬أعمالاً ‬غير ‬مكتملة. ‬أفكّر ‬أن ‬اكتمال ‬رواياتٍ ‬بعينها ‬كان ‬سيقضى ‬عليها، ‬كان ‬سيحوّلها ‬إلى ‬روايات ‬عظيمة، ‬لكن ‬منها ‬كثير ‬فى ‬السوق. ‬هناك ‬أشياء ‬مكتوب ‬عليها ‬أن ‬تظلّ ‬مُعلقة ‬أبد ‬الدهر، ‬ألا ‬تصل ‬إلى ‬نقطة ‬النهاية، ‬لأنها ‬أكبر ‬من ‬أن ‬تُحكى ‬فى ‬حياة ‬واحدة، ‬وهى ‬أشياء ‬تحاول ‬فقط ‬أن ‬تحدث، ‬أن ‬تلامس ‬أرض ‬الواقع ‬بأطراف ‬الأصابع ‬ثم ‬تعود ‬إلى ‬عالم ‬المثال. ‬ربما ‬كان ‬كا ‬أذكى ‬من ‬كابتن ‬دروجو ‬فى ‬صحراء ‬التتار. ‬قرب ‬النهاية ‬يقترح ‬القائد ‬سيمونى ‬على ‬البطل ‬دروجو ‬القيام ‬بإجازة ‬والذهاب ‬إلى ‬البحر ‬بعد ‬عقود ‬من ‬العمل ‬المتواصل ‬وترقيته ‬إلى ‬رتبة ‬النائب ‬الأول ‬فيقول ‬له: ‬‮«‬أنت ‬تأخذ ‬كل ‬شيء ‬على ‬محمل ‬الجد ‬يا ‬دروجو‮»‬. ‬لكن ‬دروجو ‬يرفض، ‬لأنه ‬كان ‬مؤمناً ‬بالقلعة، ‬يدافع ‬عنها ‬ويشدّ ‬من ‬أزرها، ‬وكأنها ‬تحتاجه ‬كما ‬يحتاجها. ‬فى ‬السطر ‬الأخير ‬يغادر ‬دروجو ‬القلعة ‬ويتهيأ ‬للموت. ‬يبتسم ‬وهو ‬يرتب ‬بيده ‬ياقة ‬البذلة. ‬برغم ‬كل ‬شيء ‬يموت ‬البطل ‬وفى ‬نفسه ‬حنين ‬إلى ‬القلعة.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.