صحيح إن النخبة تجسد مفهوم الضمير العام لمجتمعها وتطلعاته، بوصفها مرجعية ماثلة عبر جسور الممارسة الدائمة فى تواصلها التنويرى مع مجتمعها، فى كل شئون تفاعلات المجال العام واهتماماته فى صنع التقدم، وترسيخ وعى المجتمع بالتحديات الخارجية والداخلية التى تتصدى لإنجاز التقدم، والصحيح أيضًا أن غياب النخبة عن دورها أو سلبيتها، يشكل تهديدًا لوحدة المجتمع، وذلك عندما يتفاقم جموح صراعات النخبة على السلطة، عندئذ يتقوض رصيد الثقة لدى المجتمع، وأيضًا تفتقد معايير التبادل، بوصفها رأس المال الاجتماعي، فتبرز ساحات الأوضاع الداخلية للمجتمع، وقد غدت ساحات حرب بالوكالة، ويصبح الاختراق بسلاح التلاعب أسلوبًا خافيًا لممارسة الحرب المتوارية، اعتمادًا على آليات الحجب، والتضليل، والتعمية، حيث تدار هذه الحرب بالمآزق، والفخاخ، والالتباسات، وإشعال الصراعات، والاستعداءات، إرباكًا لبنية الدولة، والمجتمع، سياسيًا، واقتصاديًا، وأمنيًا، تنطلق من هيمنتها، استهدافًا إلى تقويض سلطة الدولة على موقعها الجغرافي، ومجتمعها، لكن الصحيح كذلك أن هذه الحرب تختلف عن الحروب التقليدية المعلنة، ليس فى أسلوبها؛ بل أيضًا فى أدواتها؛ إذ لا تستخدم قوات عسكرية تقليدية بتشكيلاتها ووحداتها، أو ترسانة أسلحتها المملوكة لدولة ما؛ بل إن القوى الخارجية المناهضة تستأجر بعض الشركات العسكرية الخاصة التى يوكل إليها تنفيذ خطة تفكيك الكيان الاجتماعي، حيث تستأجر أيضًا تلك الشركات مرتزقة يؤدون دور الجسد العازل، المانع، والمضلل لإشراقات فطنة العقل بتذكره الحافل وإدراكاته، وذلك فى ضوء ممارساتهم المناقضة لحقائق الواقع، تكريسًا للنهب والعنف، والقتل، والفوضى بحدودها القصوي، اجتراءً على القوانين كافة، عبر امتداد جغرافى شرطه الوحيد الانفلات من كل القيم والمفاهيم العامة، فيتوالد التناقض والريبة لدى الجميع، ويحترب الكل ضد الكل، عندئذ يهزم المجتمع بنفسه وجوده؛ إذ إن تكلفة الانفلات تدفعها الأرواح والحريات، وتدفعها أيضًا البنية المؤسسية للدولة التى تجسدها مؤسساتها الدائمة فى المجالات العامة، لكن رهان فعالية هذه الحرب، يحكمها اتساق زمنى لفرصة مواتية، كأن تكون الأوضاع العامة لذلك المجتمع خاضعة لتحولات استثنائية أساسية معقدة، تستقطب سائر المجتمع، حتى تتبدى صدمة طوفان تلك الممارسات بوصفها خارجة من رحم تلك التحولات إخفاءً للفاعل المستتر، صحيح أنه فى ظل الرعب المفرط لا يغدو الانفلات موضوع فهم عقلاني، لكن الصحيح كذلك أن الأمر أشد تعقيدًا عندما يكون العقل بطاقة تذكره مشلولاً بحاجز عازل يمنع تواصله، متجليًا فى تلك الكائنات المتوحشة التى تمارس الرعب الصارخ، وتنشر موجات الضباب فى المجال العام، بالاختراق والتعمية، وتبث ادعاءات ومزاعم، وتشيع استيهامات وهواجس، وتقذف بانطباعات وانفعالات تحجب الفاعل الحقيقي، عن كل المتورطين فى تلك الأوهام؛ حتى لا تنخرط أى دولة فى مسار تقدم يؤهلها لاستحقاقاتها، عن يقين أن التقدم حضاريًا وبالحصر يخص تلك القوى المهيمنة وحدها، إذ المسموح به لغيرها أن تمارس المشاركة فى استهلاك بعض منتجات التقدم، وليس السعى إلى صناعته. أصبحت بوابة التقدم بالنسبة إلى الشرق الأوسط رهينة قيود تلك القوى المهيمنة ومحظوراتها. وفى كتابه الفوضى التى نظموها، للكاتب جوين دايار، أستاذ العلوم العسكرية، وتاريخ الشرق الأوسط بجامعة أكسفورد، والأكاديمية الملكية بلندن، علل أسباب تلك الهيمنة بقوله إن: النفط وإسرائيل جعلا شئون المنطقة مصدر اهتمام كبير للولايات المتحدة، التى تبدت قوة مهيمنة منذ الستينيات حتى الآن، لذا لم يكن ثمة إمكانية السماح بحدوث تغيير جذرى بالمنطقة؛ إذ يعوق ذلك تدفق النفط، لذا بقيت مجمدة سياسيًا واجتماعيًا طوال أجيال، لكن الدول الكبرى المنتجة للنفط فى المنطقة، راحت تعتمد اليوم على العوائد الواردة من صادراتها النفطية، فى إطعام سكانها الآخذين فى التزايد، أى أنها مرغمة على بيع كل برميل تستطيع استخراجه، إلى سوق عالمية واحدة، تضع الأسعار للبائع والشارى معًا، ويستطرد الكاتب ليذكر تبريرات القوة المهيمنة لقيودها، مستنطقًا حالها بقوله «ما دام النفط يستمر فى التدفق، فلا يهمنا من يحكم تلك الدول، أما المنطقة بكاملها- باستثناء مخزونها النفطي- فليست ذات أهمية اقتصادية واستراتيجية لبقية العالم. إذن لم لا تجلسون وتحاولون الاستمتاع بالفرجة؟. إن صناع الفوضى ومصدريها إلى المنطقة بالاختراق، يوجهون الدعوة إلى الاستمتاع بالفرجة عبر الشاشات على مجتمع يحترب فيه الكل ضد الكل، حيث تراق دماء أبنائه بأيديهم، أو بالمرتزقة المأجورين، فى حين لا يراق لصناع الفوضى دم، بوصف الاختراق بالفوضى أقل تكلفة من تحريك الجيوش للحرب المعلنة؛ بل تأتينا تضليلاتهم التى على شاكلة قول أحد قادتهم العسكريين:إن كل عمل عظيم يمر بأطوار فوضوية خلال عملية صنعه، إذ كتلة الصلصال يمكن أن تصبح نحتًا فنيًا، وبقعة الطلاء يمكن أن تتحول إلى رسوم ملهمة» ويسترسل القائد العسكرى مشبهًا أمثلته تلك ببناء المجتمع من خلال الفوضي. إنها الحيل المتهافتة التى ترتكز على عقد المقارنات الفاسدة، لتستلب المشهد باختطاف وقائعه وحقائقه، وتغلفها بتبريرات التكاذب المفضوح لتضخها فتصبح امتدادًا للهيمنة. صحيح أن استخدام العنف يقع عند نهاية علاقات التشارك بين أفراد المجتمع، وصحيح أنه كلما تزايد اختراق الأفكار المشتركة للمجتمع، تتوالد الفوضى التى تحرض على العنف، لكن ليس صحيحًا أن الفوضى تنتج الأفكار المشتركة فى المجتمع، وإنما تنتج التفتت، والتشرذم، وسقوط الهوية، وضياع المصير؛ لذا يشحذ الإنسان قدراته بالاشتغال على علاقته بالزمان، مستهديًا بآليات استشراف المستقبل، وأصبحت فتوحات العقل غزوًا للمستقبل، حيث يتبدى بؤس أى مجتمع واضحًا عندما لا يمتلك أفراده أفكارًا عن المستقبل، بقدر ما يمتلكون أفكارًا عن الماضي، بل يسعون إلى استعادته، دون اجتهاد لتحليله وانتقاده، وأيضًا يظل هذا البؤس مهيمنًا على المجتمع، حين يكون هناك على الجانب الآخر من يحلمون بالمستقبل، ويستمتعون بالحلم به خيالاً، ولا يعملون على تحقيقه؛ عندئذ يعانى المجتمع أعمق شرخ فى تقدمه، وهو التلاعب الذى تستخدمه الهيمنة حتى يظل المخفى خفيًا. إن المجتمعات الناهضة لا تسجن ماضيها فى صورة مغلقة تعمل على تكرارها؛ بل تربط إرث معارف الماضى بعمق التفكير المنفتح على المستقبل، لتحافظ على مصالح مجتمعها، وتحمى مصائر أفرادها، وتلك هى الصفات الملازمة للمشروعات المصرية كافة، التى تم إنجازها خلال الولاية الأولى والثانية، للرئيس عبد الفتاح السيسي، والتى تؤكد أن التمفصل بين الكائن والزمن، يؤلف إيقاع الوجود والتاريخ معًا. لمزيد من مقالات ◀ د. فوزى فهمى