يرى البعض فى عالمنا العربى أن ثمة وهمًا مفاده أن «كوندليزا رايس» وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، قد صرحت عن نية الولاياتالمتحدة نشر الديمقراطية فى العالم العربي، والبدء بتشكيل ما يعرف «بالشرق الأوسط الجديد» من خلال تعميم «الفوضى الخلاقة» فى الشرق الأوسط، كما يؤكدون أيضًا أن دعاة هذا الوهم لا يمتلكون مصدرًا حقيقيًا يتضمن مقابلة أو مقالة استخدمت فيها «كوندليزا ريس» هذا المصطلح، ويتهمون دعاة هذا الوهم بممارسة البحث عن المؤامرة الأمريكية فى كل شيء؛ حماية للأنظمة القائمة، بامتطاء صهوة تفسير كل معارضة أو إصلاح على أنه محض مؤامرة أمريكية. لا شك أنهم يرتدون أقنعة زائفة بادعاء الوطنية، فى حين أنهم على الحقيقة يدافعون عن الولاياتالمتحدةالأمريكية، إذ هؤلاء البعض يريدون حفر وديان الصمت بين الناس، التى تهبط بالمجتمع إلى مستوى الانغلاق، ومن يمارس غير ذلك فإن الاتهامات تنتظره. ولا شك أن هذا المنظور يؤكد أن هناك مساحة فاصلة بين ما يطرحه هؤلاء البعض وبين الحقيقة التى يأتى بها المستقبل، ويفهمها العقل- فى ضوء استيعابه العالم- عبر تمفصل جاهزياته الإدراكية وتضامنها فى إنتاج المعرفة. إن هذا الانحراف عن الحقيقة من قلة تسعى إلى تسكين ما تطرحه بديلاً للحقيقة، شكل حالة استنكار لدى من يعرفون الحقيقة؛ بأن أول من صاغ مفهوم نظرية «الفوضى الخلاقة» المفكر الأمريكى الإستراتيجى «مايكل ليدن» والباحث البارز فى معهد «أمريكان انتربرايزر» الذى يعد قلعة المحافظين الجدد، ووفقًا للصيغة المبتكرة من «مايكل ليدن» التى تكفل الاحتياز الجوهرى على الشرق الأوسط ليس حفاظًا للمصالح الأمريكية فحسب؛ بل تغيير نمط شعوب المنطقة وسلوكياتها استيلاءً وانفرادًا به؛ بل حصره وانحصاره فى موقع المتقبل لما يقدم له، وهو ما لا يتأتى إلا بالتصدى للدور التحولى لأوضاعه وتغييرها، الذى يشمل: التغيير الكامل للشرق الأوسط، إذ بعد هدم الأسس والتقاليد القديمة، يعاد البناء، ثم تبدأ الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الشاملة، ويتبع ذلك إقرار بناء النظام السياسى لهذه الدول فى سياق أبعاد الجهد الأمريكى المباشر، تأكيدًا لإحكام السيطرة بإرادة الاقتدار المداهم والمهاجم والمسكون بممارسة خطوات سياسة الفوضى والتدمير التى تتبدى فى الخطوات التالية: 1 إطلاق الصراع الطائفى والعرقى الملازم لتركيبة دول المنطقة 2 تأجيج صراع العصبيات، وضرب مؤسسات الدولة 3 إطالة أمد الاختلال الأمنى بانتهاج أساليب عدم الاستقرار، وفرض محفزات اليأس، وشحذ آليات امتداد الصراع المصحوب بخصوصية العنف قتلاً ودمارًا 4 التدفق الإعلامى الشرس المهيمن على المنطقة إرباكًا. تلك هى الأشعة المقطعية لنظرية الفوضى الخلاقة التى تكشف حجم الهيمنة الأمريكية. صحيح أن عالم الاجتماع الفرنسي، والباحث الجيوسياسي، ورئيس المركز الدولى للسلام والدراسات الإستراتيجية «آلان جوكس» كتب مقالاً عام 2003 بعنوان «الفوضى ما بعد الحرب: استراتيجية بلا كبح ولا نهاية» وصفًا لحالة العراق تحت الاحتلال الأمريكي، لكن الصحيح كذلك أنه أصدر عام 1992 كتابه «أمريكا المرتزقة» وفى عام 2002 أصدر كتابًا بعنوان «إمبراطورية الفوضي. الجمهوريات فى مواجهة الهيمنة الأمريكية ما بعد الحرب الباردة» أكد فيه أن العالم قد أصبح فى حالة من الفوضى المكشوفة تحت ضغط النيوليبرالية، التى تجلت فى رغبة الولاياتالمتحدة المعلنة لفرض عالم على صورتها، حيث يوحده مبدأ الاضطرابات، ويديره قانون فائض القوة المحققة للهيمنة التى تأخذ به، بوصفها رأس نظام إمبراطورى يضبط فقط الفوضى بمعايير ووسائط مالية، وأحيانًا بتدخلات عسكرية، فالأمركة لا تخلق نظامًا مستقرًا للعالم؛ بل تؤسس لعلاقة مختلة مع العالم تديم الفوضى وعدم الاستقرار، حيث تفرض على كل الناس أن يسلموا بعقيدة الاحتراب الدائم واقعًا لا مفر منه؛ لذا أصبح العالم فى حالة فوضى تطغى عليها سلطة الأمركة؛ عندئذ أصبحت الدولة خاضعة للشركات المتعددة الجنسيات، التى سلبتها سيادتها السياسية والاقتصادية، فنزعت السيادة من الدول والشعوب لصالح الشركات العابرة القومية، وأصبحت العولمة الاقتصادية هى التى تعيد تشكيل السياسة لصالح أرستقراطية فاحشة الثراء ومعادية للديمقراطية، ويرصد المؤلف أنه قد أصبح هناك نوع مستحدث من الاسترقاق المعولم الذى يتمثل فى الإمدادات القسرية من العمالة الرخيصة فى العالم الثالث، بدفع الفلاحين إلى النزوح إلى المدن وتحويلهم إلى أيد عاملة رخيصة. وأشار المؤلف إلى خطورة الحط من قيمة مهنة الفلاحة وتدمير طبقتها، الذى أنتج أعدادًا كبيرة من المشردين الذين أصبحوا ضحايا لأعداد من «المافيا» شبه العسكرية التى تولت إبادتهم، فثمة علاقة بين المال والعنف، وأيضًا حدد المؤلف النوع الجديد المعولم الثانى الذى يتكون من طبقة النبلاء والمالكين للعبيد والمتاجرين بهم، وذلك ما يطلق عليه المؤلف «الردة الإمبريالية» المنظمة من طبقة الشركات فوق القومية وتجسيداتها فى الدول التابعة لها، ويسمى المؤلف النتيجة المترتبة على ذلك «الفوضى المتشظية» مؤكدًا أن الأزمة تطول جميع المستويات؛ إذ نظرًا إلى ضغوط عملية تحرير الاقتصاد المعولم، لحق الانهيار بعض الدول، وهو ما أنتج زحقبة الحروب الصغيرة. حيث الطبقة السائدة- دفاعًا عن نفسها فى مواجهة الطبقات التابعة- تلجأ إلى تحويل حرب الطبقات إلى «حرب إثنيات»؛ عندئذ تكون النهاية كارثية للجميع؛ وفى تعليق المؤلف على الأخطاء الجيوسياسية للولايات المتحدة، يشير إلى أن الأمريكيين «غير قادرين على حكم العالم، وأن أحادية الأمركة لن تبنى إمبراطورية لذاتها، بقدر ما ستغدو الأداة المحققة لإمبراطورية الفوضي، التى تتجاوزها هى عينها، ويمسى الجميع فجأة ضد الجميع، وذلك هو المصير المحتوم نحو الفوضي، فالفوضى كنموذج محلى أو إقليمي، إرادى أو محتوم، تنبع من عملية نزع القيود الشاملة التى تخضع لها كل المجتمعات المحلية العينيةس. وفى نهاية كتابه الصادر عام 2002 يورد ما نصه «يبدو لى أننا لسنا قريبين من انحلال الإمبراطورية الأمريكية.. فهناك على الأقل تهديد بإعادة تكوين هذه الإمبراطورية التى تقف حائرة أمام إخفاق الحلم النيوليبرالي، لكنها تبنى دون كلل العناصر الأساسية والأدوات شبه العسكرية لنظام نيوليبرالي، اسميته مؤقتًا «فاشية شاملة» والمقاومة ضده ليست إلا فى بدايتها، فى الولاياتالمتحدة كما فى غيرها من البلدان». ترى هل سقطت الأقنعة الخادعة عن وجوه أولئك الذين رفضوا الاعتراف باستخدام الولاياتالمتحدة «الفوضى» لفرض الهيمنة على العالم، فى حين أنه قد تناولها بالدراسة مجموعة من كبار العلماء السياسيين من داخلها وخارجها، لكن أصحاب الأقنعة راحوا يحجبون رؤيتها، ويتخطونها كحقيقة، بتحويلها إلى مطية للاتهامات لمن يحرصون على سلامة كيانهم الوطنى. لمزيد من مقالات د. فوزى فهمى