د. فوزى فهمى صحيح ذلك القول المتداول بأن البرابرة لم يدحروا روما، بل تعفنت من داخلها، وصحيح أيضا ان ملامح ذلك الخطر الداهم، تتجلي عناصره في أفق أي مجتمع، حين يفقد الناس ثقتهم بثقافتهم، وبمؤسساتهم التي تمارس الاستبعاد الاجتماعي، والاقصاء السياسي، وتستحوذ جماعات السلطة بصلاحياتها الواسعة علي الاحتكارات، وتنتزع الأموال، وتنخرط في الأعمال المحظورة، فيتقوض رصيد الثقة ومعايير التبادل التي تمثل رأس المال الاجتماعي الشاحذ لطاقات المجتمع نحو الفعالية والانتاج والتقدم، وتتفكك كفاءة الاقتصاد، ويسود العجز دوائر قدراته، وتتراكم الاختلالات، وتتعدد مشقات حياة الناس، خاصة حين يغيب الاشراق الذي ينير منظومة الحقوق الإنسانية، نتيجة تفاقم جموح صراعات النخبة علي السلطة، لكن الصحيح كذلك ان الخطر الأكبر أن تصبح تلك الأوضاع مألوفة لمجتمعها، ومقبولة في ضوء تسويغات مضللة، بوصفها سياسة عامة للعيش محتومة، عندئذ يعجز المجتمع عن ارتقاء التقدم. وإذا كان للتفاؤل أن يتنبأ بأن هذه الأوضاع سوف تخلق ثوارا عليها، فإن الأمريتطلب من الثوار الانفتاح من داخل مشروعهم وخارجه، علي ادراك أن ممارسة السلطة دون مسئولية أو ضمان كفاءة، يعيد انتاج تلك الأوضاع، فيتكرر تدويرها بلا حدود، دون قدرة حقيقية علي صنع التقدم. ولأن الثورة ليست هي التكرار، فإن علي الثوار الوعي بأن ثمة تحديات خارجية وداخلية، تتصدي لإنجاز مفهوم التقدم، بتخطيطها لمستقبل، هو في حقيقته ماض محروم من قوي التقدم. ان الزمن قد غير مفهوم القوة وكيفية استخدامها في عالمنا المعاصر، فبرزت أهمية ساحات الأوضاع الداخلية للدول، بوصفها قد غدت ساحات حرب بالوكالة، دون حاجة إلي جحافل عسكرية، اذ صار الاختراق بديلا، حيث تدار هذه الحرب بالمآزق، والأفخاخ، والالتباسات، وإشعال الصراعات، والاستعداءات، ارباكا لبنية مركب »الدولة والمجتمع« سياسيا، واقتصاديا، وأمنيا، وذلك من جانب قوي خارجية، تنطلق من حسابات قناعات مصالحها وتحالفاتها، أو من تقديرها لمنظومات التهديدات لأمنها، أو لمواجهة أية تهديدات طارئة، تتجلي في امكانية بعض الدول الاستحواذ علي آلات هجوم تماثل ما تمتلكه تلك القوي الخارجية، أو امكانية انخراط بعض الدول في مسار تقدم يؤهلها لاستحقاقاتها، بعد طول اقصاء، وتعدد حيله المضللة، انطلاقا من أن التقدم انحصاريا وحصريا يخص تلك القوي وحدها، اذ المسموح به لتلك الدول أن تمارس المشاركة في استهلاك بعض منتجات التقدم، وليس السعي إلي صناعته. أصبحت بوابة التقدم بالنسبة إلي الشرق الأوسط رهينة قيود تلك القوي المهيمنة ومحظوراتها. وفي كتابه »الفوضي التي نظموها«، الصادر عام 7002، للكاتب »جوينديار« أستاذ العلوم العسكرية وتاريخ الشرق الأوسط بجامعة اكسفورد، والأكاديمية العسكرية الملكية بلندن أورد معللا أسباب تلك الهيمنة بأن »النفط وإسرائيل. جعلا شئون المنطقة مصدر اهتمام كبير للولايات المتحدة، التي تبدت قوة مهيمنة منذ الستينيات وحتي الآن، ولم يكن بالامكان السماح بحدوث تغيير جذري بالمنطقة، اذ يعوق ذلك تدفق النفط؛ لذا بقيت مجمدة سياسيا واجتماعيا طوال أجيال، لكن الدول الكبري المنتجة للنفط بالمنطقة، راحت تعتمد اليوم علي العوائد الواردة من صادراتها النفطية، في اطعام سكانها الآخذين بالتزايد، أي انها مرغمة علي بيع كل برميل تستطيع استخراجه، إلي سوق عالمية واحدة، تضع الأسعار للبائع والشاري معا«. ويستطرد الكاتب ليذكر تبريرات القوة المهيمنة لقيودها، مستنطقا حالها بقوله: مادام النفط يستمر في التدفق، فلا يهمنا من يحكم تلك الدول، أما المنطقة بكاملها باستثناء مخزونها النفطي فليست ذات أهمية اقتصادية واستراتيجية لبقية العالم. اذن، لم لا تجلسون وتحاولون الاستمتاع بالفرجة؟«. ان صناع الفوضي ومصدريها إلي المنطقة بالاختراق، يوجهون الدعوة إلي الاستمتاع بالفرجة عبر الشاشات، علي مجتمع يحترب فيه الكل ضد الكل، حيث تراق دماء أبنائه بأيديهم، أو بالمرتزقة المأجورين، في حين لا يراق لصناع الفوضي دم، بوصف الاختراق بالفوضي أقل تكلفة من تحريك الجيوش للحرب المعلنة، بل تأتينا تضليلاتهم التي علي شاكلة قول أحد قادتهم العسكريين بأن كل عمل عظيم يمر بأطوار فوضوية خلال عملية صنعه، اذ كتلة الصلصال يمكن أن تصبح منحوتة فنية، وبقعة الطلاء يمكن أن تتحول إلي رسوم ملهمة، ويسترسل القائد العسكري مشبها أمثلته تلك ببناء المجتمع من خلال الفوضي. انها الحيل المتهافتة التي ترتكز علي عقد المقارنات الفاسدة، لتستلب المشهد باختطاف وقائعه وحقائقه، وتغلفها بتبريرات التكاذب المفضوح لتضخا امتدادا للهيمنة. صحيح ان استخدام العنف يقع عند نهاية علاقات التشارك بين أفراد المجتمع، وصحيح انه كلما تزايد اختراق الأفكار المشتركة لمجتمع، تتوالد الفوضي التي تحرض علي العنف، لكن ليس صحيحا ان الفوضي تنتج الأفكار المشتركة في مجتمع، وإنما تنتج التفتت، والتشرذم، وسقوط الهوية، وضياع المصير.