الحقيقة أن جوهر المنطق الاستراتيجى المراد تطبيقه على الحياة السياسية هو: هل تستطيع الدولة أن تركز على المستقبل دون أن تحصر نفسها فى بديل واحد يقيد من خياراتها عندما تتغير الظروف ... وهى لابد أن تتغير؟ وهل يمكن لها أن تعظم من الفرص وتتحاشى المخاطر التى يأتى بها المستقبل مع استعداد مسبق لذلك؟ تلك الفكرة عبر عنها البعض بمصطلح« فن بُعد النظر أو فن النظر على المدى الطويل The Art of Long View وهى هى كما نراها «البصيرة الاستراتيجية التى تقوم على توقع المستقبل والاستعداد لكافة احتمالاته. ومن ثم يراها البعض فى المجال الوطنى أوعلى الصعيد السياسى العام مرادفا لفكرة « توسيع قائمة خيارات السياسة وحساب السيناريوهات المستقبلية التى يمكن أن تؤثر على قرارات اليوم«، وصاغها البعض فى معنى واحد هو»أنها بمثابة امتداد للصنع الجيد للسياسة العامة« مع التأكيد على أن الهدف منها هو الوقاية وليس العلاج. وعموما يرى البعض أن التخطيط الاستراتيجى يتناقض مع السياسة، أو بالتحديد مع العمل السياسي. ويسوقون سببين لهذا التناقض: السبب الأول هو غياب الرشد فى بيئة العمل السياسي. ولعل أصحاب هذا الرأى يقصدون صعوبة تطبيق التخطيط الاستراتيجى خارج قطاع الأعمال، صحيح أن قطاع الأعمال فى عمومه يتوافر على قدر من الرشادة حيث يقرر كل فرد اختياراته بشكل رشيد وبالتالى تصبح السوق بمثابة منظومة من القرارات الرشيدة. لكن هناك حالات غير قليلة تدلل على غياب الرشد فى قرار المستهلك، وربما المُنتِج، وبالتالى حركة السوق. وحتى لو افترضنا الرشد الكامل فى مجال الأعمال وغيابه فى المجال السياسي؛ فهل يعنى ذلك عدم جدوى التخطيط الاستراتيجى فى حقل السياسة؟ الحقيقة أن التخطيط الاستراتيجى نفسه هو الذى يؤكد ضرورته وجدواه فى المجالين، ففى القطاع الخاص ليست مهمته إخضاع هذا القطاع لقوى السوق، وإنما مهمته هى إدارة المشاكل والمخاطر التى تولدها قوى السوق، ومن هنا تأتى قيمته. ونفس الأمر فى العمل السياسى فأهمية التخطيط الاستراتيجى تتشكل من كونه قادرا على توقع ما يمكن أن يحدث ولديه حلوله المعدة سلفا لمواجهة المفاجآت والمخاطر. والسبب الثانى هو قصر النظرة فى العمل السياسى ؛ فقلما يوجد سياسى يستطيع أن يتجاوز فى نظرته ما هو أبعد من الانتخابات القادمة . بعبارة أخرى ضيق الأفق الزمنى - وربما العقلى فى العمل السياسي، حيث لا يكترث الذين يمارسون العمل السياسى بالأمد الطويل ، فى حين أن التخطيط الاستراتيجى يفترض - فى كل المستويات والمجالات طول المدى أو اتساع الأفق الزمنى حتى يمكنه استشراف صور المستقبل والتغلب على ما يحمله من مخاطر. فى هذا الصدد نجد أن الحكومة لا تختلف عن القطاع الخاص؛ فالقطاع الخاص قد يراجع قراره الاستراتيجى بسبب تصرف غير متوقع من جانب شركة منافسة، وكذلك الحكومة قد تراجع قرارها بسبب تصرف غير محسوب أو مفاجئ من جانب بعض القوى السياسية أو جماعات الضغط. والحقيقة أن المراجعة والتعديل مكون أساسى فى التفكير الاستراتيجى . والحقيقة أن فشل التخطيط الاستراتيجى فى العالم العربى قد يرجع لهذه الأسباب السياسية المذكورة؛ حيث لا يحظى السياسيون غالبا بالقدر اللازم من الرشادة فى السلوك، ولايكترثون كثيرا بالمستقبل بسبب قصر النظرة والمصالح الخاصة. لكن هناك فارق كبير بين وجود إرادة سياسية لدى الدولة لانتهاج التخطيط الاستراتيجى ، ثم تتم عرقلته من جانب العمل السياسى - قصير النظر والمبنى على المصالح الخاصة، وبين حالة لا تتوافر فيها الإرادة السياسية أصلا. أغلب الظن أن الدولة فى عالمنا العربى مصابة بهذا الداء الأخير، وفى هذه الحالة لن تفلح الحلول الواردة فى الفقرة السابقة. وأغلب الظن أيضا هو أن غياب الإرادة السياسية يعد نتيجة منطقية لتضخم قصر النظر وغياب الرشد وتغليب المصالح الخاصة الضيقة، مع أن الحصافة السياسية تقتضى بُعد النظر والاهتمام بالصالح العام حتى لو كان الهدف هو المصلحة الخاصة أو الاحتفاظ بالسلطة ؛ فالصالح العام والرشادة والنظر للمستقبل هو المفتاح الصحيح لتحقيق المصالح الخاصة. أى أن التخطيط الاستراتيجى هو صمام الأمان للجميع، والبداية الصحيحة هى توافر الإرادة السياسية، والتى تعد شرطا جوهريا فى هذا الصدد. أستاذ علوم سياسية لمزيد من مقالات د.صلاح سالم زرنوقة